لطالما دار في عقولنا سؤال: "كيف يصطفي الله الشهداء؟ ولماذا نراهم يتشابهون هكذا في ابتساماتهم، ونومتهم الأخيرة، وسيرتهم البسيطة، وحصتهم القليلة جدا من أي متع الدنيا، فينتقيهم الله لينالوا شرف جواره بينما يظل غيابهم يعذب من تركوهم .
جيران محمد أبو العون يفتقدونه أيضا، كانوا يقولون يا محمد، فيأتي راكضا، يساعد جارته كبيرة السن في توفير احتياجاتها، ويقف إلى جانب جاره ليعينه في تجهيز منزله الجديد.
ابتسامته حاضرة، وكلمة "حاضر" دائما على لسانه، وليس في حياته هرج الشباب وأهواؤهم، لا يسهر ولا يثرثر ولا يتطلع إلى شيء من أهواء الدنيا، أحلامه بسيطة، أكمل تعليمه في مدرسة الصناعة، وكان يتوق فقط لعمل يعيل به نفسه ويفرح قلب أمه.
وفي قلب أمه نار لا نراها، رغم الرضى الذي يغلف كلماتها، فقد كان رفيقها الذي تخاف عليه من نسمة الهواء، كان عكازها وهو آخر العنقود، في مرضها مؤخرا، كان يشرف على علاجها وهو الونيس الوحيد لها، بعد أن تزوجت شقيقاته الخمس وأشقاؤه الأربعة ، وكان محمد خامسهم قبل يومين.
تقول شقيقته إيمان في مقابلة معها:" أصيبت أمي بانسداد الشرايين في الفترة الأخيرة، ولم تعد صحتها كما كانت، فتعلم محمد كيف يقيس لها الضغط وكيف يعطيها الدواء، ويشرف على نومها وقيامها وجلوسها، حرصا منه على راحتها" ويظل طوال اليوم معها حتى يطفئ ضوء غرفتها ليلا ويتأكد من خلودها إلى النوم".
وهي في المقابل، كأي أم عادية، حريصة جدا على فرحة عمرها الأخيرة، تخاف عليه من نسمة هواء عابرة، فمنعته من الخروج، أو حتى من الوقوف أمام باب البيت، مع ازدياد القصف الإسرائيلي المجنون على قطاع غزة.
وبين أصوات الصواريخ التي تنزل كالمطر، انسل محمد كأي شاب حبسته لعنة الحرب بين الجدران، وخرج ليقف أمام الباب، لعله يجد متنفسا لدقيقة أو دقيقتين مع ابن عمه، يتبادل معه آخر الأخبار والتوقعات، وأمه تنادي من فوق ليصعد مرة أخرى ويبرد نار خوفها.
لكن أم محمد لن تخاف بعد اليوم على صغيرها الشاب الذي رغم بلوغه التاسعة عشر، ظل في عينيها الأصغر والأكثر حاجة لحبها، والأكثر عطاء واغداقا على قلبها.
فجأة سمعت صوت انفجار قريب، حينما لف محمد وجهه وركض تاركا ابن عمه حائرا يسأله عما جرى به، وصعد درجات البناية المكونة من طابقين، عائدا إلى أمه، التي نظرت إليه حائرة مستفهمة عن سبب صراخه، تتفقد جسده، حيث لم يكن هناك آثار لجرح أو دماء، لكنه كان يصرخ، ويقول "أريد الإسعاف، سيارة اسعاف".
تكمل شقيقته: "لم تظهر عليه أي علامات إصابة، ولا دماء، حتى أنه كان لا يزال يمسك هاتفه بيده، فلم يخطر ببال أخي الأكبر الذي كان واقفا أن محمد يطلب الإسعاف لإنقاذ نفسه، كان يعتقد أنه يريد انقاذ أحد المصابين أمام المنزل .
قلب الأم فقط، هو من نظر في وجه الابن فوجده مصفرا، ثم قالت بيقين كامل: "أخوكم يستشهد" وكشفت عنه ثيابه وإذ بإصابة طفيفة تأكل بطن ابنها الصغير، وتصل إلى ظهره.
في تلك اللحظة، حمله أخوته وركضوا نحو المجهول، لعل الوقت يسعفهم ولو قليلا، ولعلهم يستطيعون الوصول إلى أقرب مستشفى، لينقذوا حياة أصغرهم الذي كان حبة قلب أمه وعكازها.
استشهد محمد أبو عون في طريقه للمستشفى، رفع السبابة كما يفعل كل الشهداء، ونطق الشهادتين، وعاد محمولا لأمه التي ودعته بصمت كما ودعت الأمهات في غزة أبناءهن، دون صرخة أو دمعة، ودون بيت عزاء يليق بحرقة القلب، حيث لا زالت صواريخ الاحتلال تدوي وتضرب وتقطع كل يوم قطعة تلو القطعة من قلب أمهات أخريات، لم يكن في حساباتهن، أن وحشية الاحتلال ستسحق أبناءهن لأنهم وقفوا أمام الباب.
خمس دقائق أمام الباب تعيد محمد شهيدا
الرسالة_ رشا فرحات