3 أمتار جمعت رفاق النفق قبل أن يربحوا السباق
غزة-رشا فرحات محرر
وفقا للخطة، كان لزاما عليهم أن يخرجوا فور إعلان النفير، وكان ذلك في اليوم الآخير لاعتكافهم في آواخر رمضان، حينما أعلن أبو عبيدة أن غزة لن تسكت أكثر عما يحدث في القدس.
رفاق النفق كانوا ثلاثين، صبروا على قساوة الجهاد والاجتهاد حتى تحول إلى عشق، وصبروا على حرمانهم من عائلاتهم حتى ألفوا البعد، وحينما آلفوه، زهدوا في كل شيء ما دون الجهاد، فزرع الله في قلوبهم حب ما تحت الأرض أكثر مما فوقها.
حياة مظلمة طويلة لا منتهية، عرضها لا يصل إلى طول قامة الرفاق، طولها يمتد لكيلو مترات لا يذكر عددها، عاش فيها محمود كلاب ورفاقه لثلاثة وعشرين يوما قبل ست سنوات، على نصف تمرة وكوب ماء، حينما قصف الاحتلال النفق وهم داخله في حرب 2014، حتى ظن الجميع ألا أمل ولا عودة، ومن بين كل حبال اليأس عاد ورفاقه.
وهذه المرة، يتكرر ذات المشهد، وكان هناك ذات الأمل، فصاحب القلب القوي يمكنه أن يعود كمارد كبير، ولعله ورفاقه يفعلونها أيضا هذه المرة.
في اليوم الأول للعدوان، أعاد محمود الكرة، مع ثلاثين غيره، أصحاب القلوب الصلدة، ممن أصبحت المقاومة لديهم الحقيقة الوحيدة حينما كانت حلما بالنسبة لنا، وها هم يعودون بعد عشرات التجارب مع الموت، ليحفروا تحت الأرض، فقد شارف النفق الطويل على الوصول، وكان من المفترض أن يحفروا ثلاثة أمتار، حتى يخرجوا من فوهته، ويصلوا إلى هدفهم الذي يريدون.
جميعهم كانوا يحبون الحياة، إذا لمحوا فيها شيئا يسمح لهم بأن يحبوها، فحينما لا تكون الكرامة اختيارا، فلا تسمح لك الأقدار بأن تجلس على الشرفة لتشرب الشاي وتستنشق أزهارك التي زرعتها، وتحمل طفلتك المدللة بثوبها الوردي، وتحكي لها الحكايات البسيطة عن الجيران والمدرسة والكتب والأقلام والألعاب، يهون كل شيء في حياتك دون الكرامة.
لكلٍ حياته التي اختارها، ولم يختر محمود كلاب أن ينام بجانب زوجته مريم، أو يغنج ابنته مريم، لم يختر حياة عادية كتلك التي اخترناها نحن، هو ورفاقه وحّدهم اليقين، حينما وحدنا الخوف من الموت.
ثلاثة أمتار متبقية من بعد الكيلو مترات الكثيرة التي حفرتها الأيدي المعفرة بالسواد، هناك ضوء في آخر النفق، وكانوا ثلاثين، فتقدم محمود يريد أن يكتشف المكان، قبل أن يدخله رفاقه.
انه قائد السرية، والقائد في شرع مقاومة الشرفاء لا بد له أن يكون الأول في وقت النفير، ولكن مريمتاه تنتظران في البيت، مريم التي أحبها وتلك التي أنجبها فأصر على أن تحمل اسم أمها تخليدا للحب.
محمود خلق محبا لجوف الأرض، للعمق الذي يصل إلى خمسة عشر مترا، للعزلة من كل صوت وكل صورة إلا من صوت الجهاد، يقتلع الخوف من نفسه جزءا بعد جزء كلما خاض تجربة جديدة.
دخل إلى جوف النفق الطويل الذي لا يعرف آخره، مع ثمانية آخرين، أول من يبدأ المخاطرة ويخطو الخطوة الأولى في المهمة التي جهزها مسبقا مع رفاقه.
وخطى التسعة، حتى وصلوا إلى نهاية النفق، في تواصل تام مع رفاقهم الواحد والعشرين، الباقين خلفهم والمنتظرين لإشارة الوصول " أن أكملوا الطريق والحقو بنا"، ولكن!
يقول رفيق لا زال حيا:" ما هي إلا دقائق حتى قطع الاتصال حينما قصفت طائرات الاحتلال الجزء الأول من النفق، فارتقى نصف التسعة شهداء، وآخر ما سمعناه هو صوت محمود، قال لا تدخلوا، لقد قصف النفق، ثم سكت".
تراجع البقية، منتظرين، لكن صوت محمود لم يعد ليكلمهم، فحاولوا.
يقول آخر:" لففنا حبلا حول خاصرة أحدنا، وأرسلناه في داخل النفق للاستكشاف، وكنا نعلم أنه يمكن أن يتعرض للاختناق، فالاحتلال كما في الحرب الأخيرة كان يقصف الأرض بصواريخ مليئة بالغازات ليتأكد من اختناق المقاومين.
وبالفعل، رأى الرفيق وجوه رفاقه الشهداء أمامه في نهاية النفق، الجزء الذي تعرض للقصف، رأى أجزاء من أجسادهم المختنقة تحت الركام، قبل أن يشعر بالدوار والغثيان والغياب عن الوعي، من تأثير الغازات السامة التي أطلقتها طائرات المحتل، فسحبه رفاقه منقذينه من موت محتم.
تأكد الرفاق أن تسعة منهم قد ارتقوا خنقا جراء صواريخ معبئة بالغازات الخانقة، وعرفوا أنهم لن يستطيعوا انتشال أي منهم إلا حينما تنتهي جولة القتال.
بقي محمود مع رفاقه في الأسفل، حيث الأكسجين لا يكفي للجميع، لعشرة أيام، احتضنتهم الأرض احتضانا حقيقيا، وهكذا كغيره من رفاق كثر، بقيت أجسادهم تحت الأرض ما قدر لها أن تبقى، لنظل نحن فوقها.