مؤمن بسيسو
الشأن التربوي دوما يتقدم الشأن السياسي.
السياسة التي لا تتأسس على بنية تربوية متينة مآلها التداعي والانهيار المحتم مهما طال الزمن.
في الاتعاظ بتجارب الآخرين خير عميم وعِبر جمة لا تحصى، وفي تجسيد هذه العبر داخل الصف ما يقينا من كوارث محققة وأمراض خطيرة تسري في النفوس سريان النار في الهشيم.
ما من حركة أو جهة أدارت ظهرها أو أهملت تحصين عناصرها وكوادرها وقياداتها وتغذيتهم بأصول ومضامين التربية الكافية لمواجهة الانفتاح على الدنيا أو الانغماس في "السلطة" إلا وبدأت مسار الانكفاء والتراجع إلى الخلف، وهوت في مكان سحيق.
قضية التربية كما نريد ليست قضية نصوص تقال أو جلسات تدار أو حتى فعاليات وبرامج عملية استدراكية على أهميتها، بل إن التربية أساسا يجب أن تنبثق من رحم الواقع المعاش، ولن يستقيم لها حال إلا بتقديم نماذج وقدوات خالصة بعيدا عن إشكاليات "السلطة" وملوثاتها المعروفة، وتكريس أولويات سليمة في سياق التعاطي مع الواقع في ظل توازن محسوب بمعزل عن التفريط الحاصل الذي منح السياسة والحكم أولوية معتبرة على الشأن التربوي والدعوي الذي يشكل أصل وجوهر دعوتنا.
يكمن الخلل أساسا في الانتقال غير المتوازن أو المحسوب إلى مرحلة العمل السياسي المفتوح دون إعداد مناسب أو مراحل تهيئة انتقالية، إذ لا يمكن ضمان حماية النفوس من التأثر أو التغيّر النفسي في ظل انفتاحها المفاجئ على واقع جديد حافل بالكثير من المغريات وأشكال الاستدراج المعروفة.
يصعب قياس حجم الخلل الذي يعتري الشأن التربوي في هذه المرحلة بشكل دقيق، لكن المؤشرات كثيرة والوقائع لا تخفى على أحد، ولن يكون بمقدورنا اجتراح آليات فعالة للعلاج والإصلاح بشكل فردي دون طرق باب المنظومة العامة بدءا من أعلى الهرم وحتى أسفله، والدفع باتجاه إعادة صياغة جذرية للواقع التربوي والدعوي والسياسي في ضوء المصلحة العامة وموجبات الإصلاح المنشود.
لا ريب أن الجهد التربوي الراهن يسهم، بشكل أو بآخر، في رتق شيء من الخرق القائم الذي يزداد اتساعا من وجهة نظري، ولن يكون بمقدور التربويين ملاحقة التوسع المطرد في حجم الخرق بعيدا عن رؤية إستراتيجية شاملة تعيد ترتيب الأولويات الوطنية والداخلية على أسس جديدة وقواعد سليمة.
لسنا من دعاة ترك السياسة أو الحكم أو التخلي عن المسئولية الوطنية، لكن ذلك ينبغي ألا يتم، بأي شكل كان، على حساب العمل التربوي، وأن ينتظم في إطار رؤية واضحة لممارسة السياسة والحكم تنحاز إلى أولوياتنا الإستراتيجية، وترسم مشهدا متكاملا ومتوازنا في ضوء تعقيدات الحصار والعدوان ومخططات الاستهداف دون أي اغترار بأدوات السلطة والنفوذ وتأثيراتها الضارة.
تجربة الأعوام الماضية كانت مريرة في العديد من جوانبها وجزئياتها، ومن أوجب الواجبات أن نعيد تقييم مواقفنا وأولوياتنا الراهنة بما يضبط البوصلة في اتجاهها الصحيح، ويحفظ مسارنا التربوي والدعوي من أمراض السلطة والسياسة في ظل التحديات الخطيرة التي تستهدف مشروعنا وشعبنا وقضيتنا.