هذه قصة حلم بالحرية لم تتكلل بالنجاح، القصة ليست في الخاتمة، وإنما في تفاصيلها، وفي الإصرار على الوصول رغم أن استحالة هذا الوصول هي الأغلب، تقلب "الرسالة" في حياة الأسير جهاد غبن، وتعيد إلى ذاكرته تفاصيل اختلط فيها الضحك بالدموع والدروس، عن تجربة "الهرب" التي خطط لها ورفاقه من سجن عسقلان، ولكنها فشلت في اللحظة الأخيرة.
كان الحلم الذي بدأه الأسير جهاد غبن في سجن عسقلان عام 96 هو عبارة عن ثغرة في الأرض، فكرة بدأت في رأسه وحده ثم بدأ يجند فيها أقرب أصدقائه الأسرى ثائر الكرد ونهاد جندية ومحمد حمدية.
ولكي تكتمل الفكرة، يجب أن يجتمع الأربعة في غرفة واحدة، فطالبوا بنقلهم إلى قسم 11 الأقرب إلى تنفيذ الفكرة التي تدور في عقل غبن، وحينما وصل الجميع إلى قسم 11 طلبوا من إدارة السجن أن يجمع أربعتهم في غرفة رقم 4.
هذا الإعداد الذي خطط له الأسرى الأربعة أخذ منهم أربعة أشهر من التخطيط، فقسم 11 هو الأقرب إلى دورة المياه التابعة لغرفة الزيارات، التي تقع في الطابق الأسفل لغرف الأسرى، وغرفة 11 تحديداً تعلو دورة المياه التابعة لغرفة الزيارات، والتي كانت هدفهم للهروب عبرها.
أخذ المخططون قياسات البلاطات لمعرفة عرض الغرفة، بطرق كثيرة، يقيس الأسرى بالسنتيمتر، ويطلبون من رفاق لهم بطرق تحايلية أن يقيسوا غرف الزيارة من اتجاهين، دون أن يلفتوا نظر أسير أو زائر، أو جندي.
عرفوا عدد البلاطات وطولها وعرضها التي تصل إلى جدار غرفة الحمام، وكل ذلك ليكون مكان الحفر أدق والقياسات صحيحة.
كثيرة هي الذكريات التي قلبها جهاد غبن في هذه القصة ونحن نتحدث معه، والتي تحوي تفاصيل دقيقة مليئة بالإصرار والأمل والتي لم يكن هدفها الحرية من وجهة نظره: "كان هدفنا أن نخرج لنكمل الطريق، لنقاوم من جديد، لنحرر زملاءنا الأسرى بالقوة، لم نكن نسعى لرؤية ضوء الشمس فقط".
بدأ الحفر متزامنا ًمع أعمال تبليط تتم داخل معتقل عسقلان، فاختلطت الأصوات ببعضها البعض، يقول غبن: "ثائر الذي كانت وظيفته إدخال البلاطات إلى الزنازين، سرق إزميلاً لأربع ساعات، وحينما ضرب ضربته الأولى في أرض الزنزانة فتحت فتحة نحو حمام الزيارات فوراً من تلك الضربة، فسقط الحجر الأول داخل فتحة المرحاض واختفى.
يكمل غبن: "فتحنا الفتحة خلال أربع ساعات، فتحة ليست بالكبيرة، حتى أن أحدنا كان قد حضّر نفسه وقام بعمل حمية غذائية لشهريين سابقين، حتى ينزل بضع كيلوات ويصبح أمر نزوله من الفتحة أسهل.
وأتى الليل، هناك فتحة في سقف الحمام، يجب أن يخفيها الأربعة. "نزل ثائر وأخفى سقف الغرفة بكرتون، وطلى السقف فوق الكرتون ليلاً والمعتقل في حالة هدوء، حتى لا يظهر للداخل إلى دورة المياه بأن هناك فتحة في السقف".
بقي شيء آخر خطط له الأربعة بدقة أكبر: "كيف يمكننا أن نخاطر ونخرج من الفتحة في يوم الزيارة، ونفتح باب دورة المياه ونخرج إلى قسم الأهالي هكذا بكل بساطة".
خطط غبن أن يخيط وزملاؤه ملابس نسوية وأغطية رأس من بقايا أغطية الأسرة" ويلبسوها في يوم التنفيذ، حتى يظن الناظر إليهم أنهم سيدات من أهالي الأسرى جاءوا للزيارة.
وخيطت الملابس بمساعدة أحد الأسرى في السجن، وارتداها الأسرى وتراهنوا على أن يهربوا ولا يلتفت أي منهم خلفه، وألا ترتبط نجاة أحدهم بالآخر، وبأن تكون رسالتهم الأولى هي إكمال المقاومة والحرية.
كُشفت القصة وانتهى الحلم حينما انكشف الأسير الثالث بعد خروجه من البوابة ولم يتمكن زملاؤه من النجاح والوصول إلى الخارج، ففي وقت انتهاء الزيارة خرج الأسير الأول مرتديا ملابس النساء وتبعه الثاني.
استغل الأسرى خلال هروبهم انشغال الشرطة بالأهالي في ختام الزيارة، وكذلك انشغال الأهالي بوداع أبنائهم في اللحظات الأخيرة، كان المخطط أن ينسل من خلف الخارجين أربعة أسرى.
مر الأول والثاني وحينما شك الشرطي بالثالث، كُشف السر ومات الأمل فجأة، لكن الأمل الذي يموت في داخلنا نحن، لا في داخل الزنازين.
في نهاية لقائنا مع الأسير جهاد غبن الذي أفرج عنه في صفقة شاليط، بعد أن قضى حكماً بالسجن ثلاثين عاما في السجون، تمنى من الله أن ينجح الأسرى الستة في الوصول إلى ما يريدون، قائلا: "على الأغلب هم يريدون سلاحًا لإكمال رسالتهم، ولأجل هذا يسعى الأسير للحرية، فإن عاد فهو يريد العودة شهيداً، لا معتقلا".