هل جربت يوما أن تعزل نفسك بغرفة مظلمة، فرشها ذو رائحة كريهة في منطقة بعيدة لا تختلط بالبشر ولا تعرف الليل والنهار، وتتخلى عن مقتنياتك الشخصية من ساعة وهاتف محمول، ولا تختلط بأحد حتى طعامك في الثلاث وجبات مكرر دون طعم أو طهي جيد؟
حتما لو مررت بذلك لن تكمل النهار بأكمله وستتذمر كثيراً، لكن تذكر أن هناك الآلاف من الأسرى الفلسطينيين يعيشون في زنازين الاحتلال الإسرائيلي تجربة تفوق الوصف.
ومجرد أن يُذكر مصطلح "زنزانة" سرعان ما يتذكر الفلسطينيون صاحب أطول عزل انفرادي وهو الأسير حسن سلامة، الذي قضى 17 عاماً يتنقل من زنزانة إلى أخرى معزولاً عن محيطه الداخلي في السجون، محروماً من كل شيء، في مقابر يجملها الاحتلال تحت مسمى "زنازين العزل الانفرادي."
الحكم الذي صدر بحق الأسير سلامة هو 48 مؤبداً و20 عاماً، وتلجأ إدارة السجون إلى عزله تحت ذرائع أمنية وحجج واهية في مقدمتها أنه يشكله خطراً على "الإسرائيليين" وأمنهم.
العزل الانفرادي الذي يعيش فيه الأسير سلامة هو زنزانة ضيقة وصغيرة، تفتقد لأدنى المقومات الإنسانية والصحية، فيها نافذة صغيرة لا تسمح بدخول الشمس ولا الهواء.
غرفة "زنزانة" مشبعة بالرطوبة وتنتشر فيها الحشرات والصراصير، ولا يسمح له بالخروج إلى ساحة الفورة سوى ساعة واحدة في اليوم، ليقضي 23 ساعة داخل هذه الزنزانة.
ويخرج الأسير إلى ساحة الفورة مقيد اليدين والقدمين، وهذه الأغلال ترافقه إذا ما خرج للعيادة أو لمقابلة المحامي، إضافة إلى ما يتعرض له من استفزازات ومعاملة قاسية ومهينة على يد السجانين، وقد خاض العديد من الإضرابات احتجاجاً على عزله ومعاملته القاسية.
صمت الزنزانة كالقبور
في تجربة قاسية داخل زنازين الاحتلال، أنصتت إليها "الرسالة" تعود للأسير المحرر إياد أبو ناصر -38 عاما- والذي خرج من ظلمات السجن قبل ثلاثة شهور، يقول إنه منذ بداية اعتقاله قضى سنتين في العزل الانفرادي بشكل متواصل، عدا عن نقله بشكل مستمر من حين لآخر بسبب تمرده مدة أسبوع أو أسبوعين في الزنزانة.
لم تختلف الزنازين التي كان يتنقل فيها "أبو ناصر" فدوماً تكون الجديدة أسوأ من سابقتها والتعامل أشد قسوة، أما الطعام فله حكاية أخرى.
يقول أبو ناصر: في إحدى المرات اعترضت على سمكة نيئة دفعها إليه أحد الضباط من أسفل الباب ودفعتها خارجاً، فماهي إلا دقائق حتى دفع باب زنزانته الضابط وبرفقته عشرة جنود، جاءوا لضربه كما أخبروه والسبب هو اعتراضه على السمكة ذات الرائحة الكريهة.
في تلك المرة اكتفى الضباط بربط أطرافه بكل زوايا "البرش" – السرير الذي ينام عليه.
يصمت قليلا وكأنه يتذكر الحادثة أمامه ويعلق: "بقيت نصف يوم بهذه الوضعية حاولت الصراخ والسب عليهم وعلى كل متخاذل بقضية الأسرى (..) شعرت بالظلم الكبير وبدأت أسخر منهم استفزهم أكثر كوني في وضع ما بين الحياة والموت ولا شيء أخسره أكثر من ذلك".
لم تهن عليه نفسه حين شعر بحاجته إلى دورة المياه، حاول الصراخ كثيراً، منادياً "أريد دخول الحمام"، وبعدها جاء ضابط آخر فك قيده، لكن ألمه كان أكبر من ذلك وبقي أياما يعاني بسبب ربط أطرافه بزوايا السرير.
وذكر أنه حاول استغلال وقته وهو في الزنزانة في قراءة القران الكريم وحفظ بعض أجزائه، بالإضافة إلى أنه في إحدى المرات حين ذهب إلى الحمام تحت حراسة مشددة وجد جريدة عبرية في سلة القمامة سرعان ما التقطتها بعدما أدار ظهره إلى الكاميرا وخبأها في ملابسه وبقي يقرأ ما فيها من أخبار ليقوي لغته العبرية ويطلع على آخر المستجدات في الخارج.
ولم يتردد أبو ناصر وهو يحكي أنه كثيراً ما كان يمارس هواياته في الزنزانة فمثلاً يغني بصوت عالٍ، ويقف على "البرش" متخيلاً أن هناك حشداً كبيراً من الناس يخطب بهم، وكثيراً ما كان يهيئ نفسه للحظة الإفراج ويتدرب أكثر على انتقاء الكلمات التي سيلقيها على مسامع المهنئين.
صمت وأكمل: "كثيراً ما أكنت أصرخ منادياً على إخوتي وأخبرهم كم أني مشتاق لهم، وكذلك أصحابي وكل من أشعر بالحنين إليه، وأحياناً أتحدث إليهم بصوت عال لأخبرهم بأحوالي".
ويصف الحياة داخل الزنزانة أنها عزلة مع الذات، الصمت فيها كصمت القبور، فلا صوت سوى وقع أقدام السجانين عند إحضار الطعام أو إخراجه للفورة مدة ساعة أو أقل وقد أُحرم لأيام حال اعترضت على شيء.
يعرفون الوقت من العد
أما تجربة أحمد الفليت لم تختلف كثيراً، فقد ذاق العزل الانفرادي في قسم 8 بعزل سجن الرملة والمعروف أنه الأسوأ في المعتقلات الإسرائيلية، لكنه أغلق في 1993 بعد إضراب خاضه الأسرى وكان من مطالبهم الأساسي إغلاقه في 1992.
"زنزانة 35" لم ينسها الفليت حيث قضى فيها شهوراً طويلة لا يعرف سوى "السادسة صباحاً، والثانية عشر ظهراً، والسادسة مساء" فتلك مواقيت عد الأسرى، أما مقومات الحياة البشرية فهي معدومة كالقبر كما يصفها.
يقول لـ "الرسالة" إن غالبية الأسرى تعرضوا للعزل الانفرادي فالمدة الأقل هي أسبوعان، وأقصاها شهور وسنوات طويلة كحسن سلامة، موضحاً أن الزنازين تختلف، فهناك زنازين لا يرى فيها المعتقل السجان كون المراقبة تكون عبر كاميرات عن بعد، وأخرى يكون كل أسير في زنزانة لا تتجاوز المترين داخل قسم يمكن لبقية المعزولين سماع بعضهم واختلاق الأحاديث المختلفة بينهم.
يروي أنه كان يعرف أحياناً مواقيت الصلاة عند سماعه للأسرى في الأقسام وهم يؤذنون.
ويحكي الفليت أنه كان يقضي وقته بالحديث بصوت عال مع زملائه في العزل كي يسمعوا بعضهم فباتوا يحفظون سيرة حياة كل منهم، لكن حين يأتي معزول جديد يكون هو محور الحديث وينهالون عليه بالأسئلة عن الخارج وآخر الأحداث هناك.
أما عن الطعام المقدم لهم يشير إلى أن الوجبات الثلاث بالكاد تكون بحجم وجبة واحدة، وتوزن بالجرام عدا عن أن الطعام رديء ومكرر، موضحاً أن كمية الطعام كانت بالكاد تبقيهم على قيد الحياة.
ويستخدم العزل في بعض الحالات كعقوبة بحق الأسرى والمعتقلين على مخالفة "الانضباطية" داخل السجن، وهنا يعزل المعتقل منفرداً في زنزانة لا يسمح له إلا بإدخال ملابسه إليها، ولا تحوي سوى الفرشة والغطاء.
ويخول القانون الإسرائيلي محاكم الاحتلال بإصدار قرار يقضي بحجز المعتقل في العزل لمدة 6 أشهر في غرفة لوحده و12 شهراً في غرفة مع معتقل آخر، كما أن المحكمة مخولة حسب القانون بتمديد فترة عزل المعتقل لفترات إضافية ولمدة لانهائية.
وتعتبر (إسرائيل) هي الدولة الوحيدة في العالم التي تشرّع انتهاكاتها لحقوق الإنسان الأسير؛ فقانون مصلحة السجون الإسرائيلية لعام 1971، ينص على السماح بعزل الأسير بذرائع أمنية؛ بحيث أصبح العزل وسيلة مشروعة بيد مدير السجن وضباطه، وقد جرى تعديل هذا القانون عام 2006؛ وتوسعت معايير احتجاز المعتقل في العزل، وكذا صلاحيات المخوّلين بفرض عقوبة العزل على الأسرى، ومنها محكمة العدل العليا التي تستند في ذلك إلى ما يسمى "تقارير سريّة" من جهاز المخابرات الإسرائيلي.