( لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (
( الحشر: 12)
لعل الغضب العارم الذي انفجر في وجه السلطة الفلسطينية، وصَوَّب سهامه تجاه عباس وزمرته، وألحق خزياً كبيراً بحركة فتح، ولم يكن قاصراً على الشعب الفلسطيني، أو ضحايا العدوان الوحشي على قطاع غزة، إنما كانت هناك جبهة عالمية، شاركت فيها رموز من حركة فتح نفسها، فضلاً عن زعماء ورؤساء ومنظمات وتنظيمات أصيبت بالذهول، وهي ترى رئيس السلطة المنتهي الولاية يأمر بسحب تقرير لجنة تقصي الحقائق برئاسة اليهودي جولدستون، وهو يتضمن إدانة قادة الصهاينة بارتكاب مئات جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، فيما أسموه الرصاص المصبوب، واستنفذوا فيه نصف مخزون الأسلحة عند الكيان المحتل، واستخدموا فيه آخر ما تَفَتَّقَتْ عنه العقلية الأمريكية والصهيونية من أسلحة الدمار الشامل... إلخ.
لعل ذلك الغضب الناري يعود إلى أن قرار سحب التقرير قد جاء ممن يزعمون تمثيل الشعب الفلسطيني، ويُفْتَرض أن يكونوا حُماةً له، لا أن يُلْقوا بطوق النجاة لمن ارتكب تلك المجازر التي تقشعرُّ من هَوْلِها الجلود، وتبلغ القلوب الحناجر، فقد ابْتُلِيَ المؤمنون، وزُلزلوا زِلزالاً شديداً، ولكننا قلنا: هذا ما وعدنا الله ورسوله أن يكون طريقاً لِلْجَنَّة، وصدق الله ورسوله، وما زادنا إلا إيماناً وتسليماً، فقد أنكر عليكم أن تحسبوا أن تدخلوا الجنة، وقد أتاكم نبأ الذين من قبلكم؛ مَسَّتهم البأساء والضراء وزُلزلوا؛ حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله؟، ولستم بدعاً من الأمم!، ونحمد الله أن ردَّ الذين كفروا والذين نافقوا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزا.
غير أن المرجح في سبب تعطيل العدالة، والحيلولة دون ملاحقة الصهاينة، هو أن السلطة وحركة فتح كانوا شركاء في ذلك العدوان، وقد أَغْرَوْا الصهاينة بمسح بعض المخيمات من الوجود، كما فعلها المدعو الطيب عبد الرحيم في حَقِّ مخيمي جباليا والشاطئ، كما أن عباس وزبائنه قد طلبوا من الصهاينة الاستمرار في العدوان إلى نهايته؛ حتى يحقق أهدافه، ويعود أولئك المتربصون بنا الدوائر على ظهور الدبابات الصهيونية؛ ليفتكوا بنا، وهم الذين لا يرقبون في مؤمنٍ إِلَّاً ولا ذمة.
إن سبب نزول آية الحشر التي في صدر المقال يجيب على أكثر التساؤلات التي كانت وراء الصدمة التي أصابت الكثيرين بالغثيان والأسى، ولعله من المناسب قبل ذكره أن نأتي على نذالة المنافقين في نصرة اليهود، وإخلاص الولاء لهم من أَوَّلِها.
إن المعروف من أخلاق العرب في الجاهلية أنهم يأنفون من المداهنة، لكنهم تَلَّقوا النفاق من الأخلاق الذميمة عند اليهود، فقد كان فريق منهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجُّوكم به عند ربكم، وقد قالت طائفة منهم: آمنوا بالذي أُنزل على الذين آمنوا وَجْهَ النهار، واكفروا آخره؛ لعلهم يرجعون، وقد نهى الله جل وعلا نبيَّه عليه الصلاة والسلام أن يَحزُنَه الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم من العرب ومن الذين هادوا، أولئك الذين يُحَرِّفون الكَلِمَ من بعد مواضعه.
لذلك فقد اضطر بعض كفرة العرب من أهل يثرب أن يتظاهروا بالإسلام بعد تأييد الله لكم يوم بدر؛ ليحقنوا دماءهم، وليتمكنوا من الدسائس والوسائس، بعد أن أيقنوا أن الصدام المفضي إلى استئصالنا مستحيل.
وقد حدث أن نقض يهود بني قينقاع عهدهم بكشف عورة مسلمة عند صائغ يهودي، فانتصر لصرختها مسلم، فقتل الصائغ، فاجتمع عليه رهطٌ من اليهود، فأردوه قتيلاً، فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أن حاصرهم، وقرَّر أن يقيم فيهم حكم الله من فوق سبع سموات، فإذا برأس النفاق عبد الله بن أُبَيٍّ بن سلول يجادل عن اليهود القتلة، ويمسك بتلابيب النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول: لا أدعك حتى تُحْسِنَ في مَوَالِيَّ، إني امرؤ أخشى الدوائر، وهذا من الظن السَّوْءِ بالله، وعلى المنافقين دائرة السَّوْء، وقد انتهى ذلك المشهد بأن وهبهم له على أن ينقشعوا عن المدينة، غير مأذونٍ لهم في اصطحاب الحلقة والسلاح.
وقد أغرت نجاتهم من القتل يهود بني النضير في تبييت النية لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهزوا فرصة جلوسه في ظلِّ حائطٍ من بيوتهم، حين ذهب يستعينهم في دية قتيلين قد أزهقهما عمرو بن أمية الضمري خطأً، فرحبوا به نفاقاً، وتظاهروا بالاستعداد، ولكنهم انتدبوا من يدحرج عليه صخرةً من فوق البيت، حتى يقتلوه، كما قتلوا العشرات من أنبيائهم ظلماً وعلوا.
لذلك فقد بعث إليهم أن أجَّلْتُكم عشراً، ومَنْ وجدته بعدها في المدينة ضربت عنقه، فتجهزوا للجلاء، فإذا بكبير المنافقين المنافحين عنهم يرسل إليهم أن اثبتوا في حصونكم؛ فإن معي أَلْفَي رجل سندخل معكم في حصونكم؛ فإن قوتلتم نصرناكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، وهم أشبه شيءٍ بأزلام (دايتون) اليوم، فيما يسمى بنموذج الفلسطيني الجديد، مع أن من يتولَّ اليهود والنصارى منكم فإنه منهم، وقد تأكد هذا بالجمع بينهم وبين اليهود في أُخُوَّةِ الكفر في قوله تعالى:" أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " الحشر(11).
وقد جاءت آية المقال بعدها مؤكدة بالقسم أن المنافقين لن يخرجوا مع اليهود، ولن ينصروهم، وعلى فرض أنهم نصروهم، كما تفعل سلطة أوسلو اليوم، فلسوف يولون الأدبار، ثم لا ينصرون، ولقد نصروهم في غزة، ولم يُغْنِ عنهم ذلك من الله شيئاً، وإنهم ينصرونهم اليوم في الضفة الغربية؛ ليتمكنوا من تهويد القدس، وهدم الأقصى، والمضيِّ في قضم الأرض بالمستوطنات، ولكن عاقبة الفريقين وخيمة، فمثلهم كمثل المستوطنين في غزة قريباً ذاقوا وَبَالَ أمرهم، ولهم عذاب أليم.
وحين نقض بنو قريظة عهدهم يوم الأحزاب، ووقعوا في القبضة، أَبَوْا إلا أن يكون الحَكَمُ فيهم هو مولاهم القديم سعدَ بنَ معاذ رضي الله عنه، وجعل المنافقون يقولون: يا سعدُ أحسنْ في مواليك، كما فعل ابن سلول ببني قينقاع، فأجابهم: لقد آنَ لسعدٍ أن لا تأخذه في الله لومةُ لائم، وقد أمر أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم ونساؤهم، وأن تغنم أموالهم، فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حكمه بأنه أصاب حكم الله فيهم من فوق سبع سموات.
إن سحب التقرير منسجم تماماً مع وظيفة السلطة المتهودة، وهو جريمة حرب تنضاف إلى قاموس جرائمها، غير أن هذا لن يجعل اليهود يفلتون من الحساب، لكنه يترك المنافقين مجردين حتى من ورقة التوت، ولن يضروكم إلا أذىً، وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار، ثم لا ينصرون.
والحمد لله رب العالمين