في مثل هذه الايام أُسدل الستار على المشهد الأخير من قصة "المفاوضات بين الكف والمخرز" التي استمرت على مدار خمسة أعوام خاضتها حركة حماس ضد (إسرائيل) وأطلقت عليها "صفقة وفاء الاحرار"، بينما عُرفت (إسرائيليا) بصفقة تحرير الجندي (الإسرائيلي) جلعاد شاليط.
في الحادي عشر من أكتوبر 2011 وبعد جولات عديدة من المباحثات والمفاوضات غير المباشرة بين حماس و(إسرائيل) توصّل الطرفان بوساطة مصرية لاتفاق يقضي بإطلاق سراح 1027 أسيراً فلسطينياً في سجون الاحتلال على مرحلتين مقابل إطلاق حماس الجندي شاليط.
الوساطة المصرية كانت العنوان الظاهر والضامن لتنفيذ الصفقة، لكن العديد من القنوات والدول والشخصيات الإقليمية، حاولت أن تلعب أدوارا في إنجاز الصفقة، ولكن الانطلاقة الحقيقية للمفاوضات والاختراق الأبرز تم في قناة خلفية سرية عرفت بـ"قناة غازي -غرشون".
وسنتناول عبر حلقات هذا التقرير كواليس ما جرى في مفاوضات الصفقة ابتداء من أسر الجندي جلعاد شاليط، الذي وقع في قبضة المقاومة الفلسطينية في 25 يونيو 2006، في عملية الوهم المتبدد وذلك بعد عدة أشهر من تجنيده في خدمة سلاح المدرعات على حدود القطاع، وصولا إلى إبرام اتفاق التبادل.
وسنسلط الضوء على أبرز المحطات التفاوضية التي مثلت نمطا ًجديداً وغير مباشر من المفاوضات بين حماس ودولة الاحتلال غير تلك التي جربتها (إسرائيل) مع منظمة التحرير الفلسطينية منذ مؤتمر مدريد 1993 وحتى اليوم، وسنعرض في التقرير بعض نماذج من المحادثات التي جرت بين الطرفين وتنشرها الرسالة لأول مرة.
المشهد الأخير
نجحت صفقة "وفاء الاحرار" في كسر العديد من الخطوط الحمر والمحرمات (الإسرائيلية) في قضية الأسرى، في سابقة تفاوضية فريدة، بين الأسير والسجان، لكن هذه المرة بشروط الأسير، وبقواعد تفاوضية جديدة في ظل واقع أمني وعسكري وسياسي معقد لا تنطبق عليه النظريات السياسية وموازين القوة في أي معركة.
المشهد الأخير للصفقة في القاهرة اختزل خمس سنوات من المفاوضات والوساطات والقنوات السرية والعلنية، ووسائل وأساليب الضغط والترهيب، استعانت خلالها (إسرائيل) بكل قدراتها العسكرية والاستخباراتية ووظفت كل خبراتها التفاوضية وتجاربها السابقة في صفقات التبادل مع جهات عربية وفلسطينية، وجندت علاقاتها الدولية والدبلوماسية، بينما اعتمدت حماس على خبرتها المحدودة والتجارب السابقة للتنظيمات الفلسطينية واللبنانية، واستخدمت سلاح النفس الطويل، الذي كان السلاح الاقوى في هذه المواجهة، مع الإصرار على تحقيق هدف رسمته قيادة حماس العسكرية منذ الأيام الأولى لأسر شاليط.
لحظة حسم الصفقة في القاهرة جاءت بعدما نضجت في مطبخ غازي -غرشون، رغم أن المشهد الأخير كان مكاناً نائياً أعدته المخابرات المصري للطرفين حيث تواجد وفد حماس في غرفة مغلقة تضم أربعة قيادات من بينهم القائد أحمد الجعبري قائد كتائب القسام وصاحب البصمة الكبيرة في المفاوضات والصفقة، وهو أسير سابق في سجون الاحتلال، حيث قاد مفاوضات الصفقة من زاوية نافذة زنزانة يقبع فيها أسيرا لسنوات طويلة، وليس من خلال قاعات الفنادق التي جمعته مع الوسطاء.
وفي الغرفة الأخرى المجاورة كان وفد (إسرائيلي) كان من بين اعضائه ديفيد ميدان الذي كلفه بنيامين نتنياهو بمتابعة مفاوضات الصفقة مع حماس، بعدما تم استدعاؤه على ضوء خبرته السابقة رغم تقاعده بعد 30 عاما من العمل في جهاز الموساد، وفهمه الثقافة العربية وتجاربه في مجال المفاوضات. بينما كان ضابط المخابرات المكلف من اللواء رأفت شحادة رئيس المخابرات المصرية ينتقل بين الغرفتين لوضع التفاصيل الاخيرة للصفقة، بعدما تمكنت قناة غازي -غرشون السرية من تخطي العقبات الرئيسية والتي مثل طرفيها: غازي حمد وكيل وزارة الخارجية في حكومة غزة، وغيرشون باسكن المدير المشارك للمركز (الإسرائيلي) الفلسطيني للبحوث والمعلومات.
وتعد قناة غازي - غرشون، تجربة تفاوضية فريده رغم أنها غير رسمية منذ البداية، لكنها مع مرور الوقت تحولت إلى القناة الأهم في تبادل رسائل بين قيادة حماس، وحكومة الاحتلال في عهد ايهود اولمرت وبنيامين نتنياهو في اطار محالات دفع الصفقة للأمام، بعدما مرت بمراحل جمود، بل وتوقفت تماما في ظل محاولات للتوسط على مدار خمسة أعوام من العديد من الدبلوماسيين ومسؤولي المخابرات في دول كبيرة مثل: مصر وألمانيا وفرنسا وتركيا وبلدان أخرى للوصول الى اتفاق بين (إسرائيل) وحماس لإطلاق سراح جلعاد شاليط، مقابل أسرى فلسطينيين.
البداية.. إشارة الحياة
وعن نقطة البداية واجواء إنطلاق مفاوضات الصفقة يذكر د. غازي حمد في شهادته لـ"الرسالة" أنه قام بتحرك شخصي منذ اللحظة الأولى بعدما اتصل به غرشون باسكين، وكان المطلب (الإسرائيلي) الاساسي منذ الأيام الأولى لأسر شاليط في عملية الوهم المتبدد "إشارة الحياة"، وقد تكرر الطلب (الإسرائيلي) مرارا بضرورة معرفة مصير الجندي قبل الحديث عن مطالب حماس.
ويضيف حمد: "بعد نحو 3 أسابيع وتحديداً في سبتمبر 2006 وافقت حماس على إعطاء حكومة الاحتلال "إشارة الحياة".. بأن شاليط على قيد الحياة.
تم التوافق على الوسيلة، وأخيراً وصلت الإشارة من كتائب القسام، وهي عبارة عن رسالة من ورقة واحدة مكتوبة باللغة العبرية بخط يد شاليط، وفي غرفة مغلقة اجتمعت القيادات التي تتواصل مع الوسيط المصري، وارتدى كل من حمل الرسالة لكي يقرأها أو ينقلها القفازات تحت ضغط إجراءات أمنية معقدة، حتى لا يتركوا لأجهزة أمن الاحتلال أي ثغرة يتم من خلالها تتبع خطوط التسليم والتسلم بالتعرف على بصمات الأشخاص الذين تولوا نقلها للمخابرات المصرية. وقد وصف شاليط في أول رسالة له في 9 سبتمبر 2006 احتجازه بكابوس لا يطاق وأنه أسير في غزة "وحيدا في هذا السجن". وكانت إشارة الحياة الأولى، تبعتها بعد ذلك إشارات أخرى بعضها كان مقابل ثمن مثل الإفراج عن أسيرات فلسطينيات.
وبعد رسالة شاليط قدمت حماس مطالبها الأولى عبر رسالة فاكس نقلها باسكين: "ثمن شاليط الإفراج عن 1500 من الأسرى الفلسطينيين ؛ ووقف العمليات العسكرية ضد غزة، وفتح جميع المعابر المغلقة، وقد وصلت مطالب حماس هذه عبر باسكين إلى عوفر ديكل أول من تولى ملف المفاوضات في قضية شاليط عن الجانب (الإسرائيلي) إلا أنه بعد ذلك بيومين، تلقى باسكن مكالمة هاتفية من ديكل قال له: "أنت خارج اللعبة، انتهى دورك هنا".
في هذه الأثناء دخل على الخط لاعب جديد من الفريق المصري، حيث فوجئ باسكن بمكالمة في اليوم التالي من نادر الأعصر، القنصل في السفارة المصرية في (تل أبيب) حينئذ، وأحد أبرز المسؤولين في المخابرات المصرية لاحقا، وقد قابل الأعصر باسكن في القدس ليطلب منه مواصلة دوره في التواصل مع غزة، وبحسب باسكين فقد انحنى عليه الاعصر وقال له : "غيرشون.. حماس لا تقبل التفاوض والاتصال مع عوفر ديكل، نحن بحاجة إلى شخص مستقل، شخص يمكن أن ينقل الرسائل، ومن المهم أن تلعب هذا الدور، لا تستمع لهم".
قناة غازي - غرشون
في هذه الأثناء كانت تجري اتصالات غير رسمية بين غازي حمد وغرشون باسكين، ويذكر حمد أنه قام بإبلاغ الأخير بأن حماس استجابت للطلب (الإسرائيلي) ويقول: "قلت لغرشون إن إشارة الحياة في طريقها للوسيط المصري، وإن هذا الأمر يثبت جدية حماس في التفاوض حول صفقة لتبادل الأسرى".
في الجانب الآخر، ينقل باسكن في شهادته للصحافة العبرية أو تلك التي دونها في كتابه: "تحرير شاليط .. القناة السرية". أنه بعد ثلاثة أيام من أسر شاليط تلقى مكالمة هاتفية من مدرس في الجامعة الإسلامية بغزة تربطه علاقات وثيقة مع حماس كان التقاه في مؤتمر أكاديمي في القاهرة، قبل بضعة أشهر، حيث دار الحديث حول الحصار وآثار العملية العسكرية القاسية التي كانت تشنها (إسرائيل) على خلفية عملية أسر شاليط، وضرورة فتح قناة للتواصل مع حماس في غزة، ولخلق حراك، واقترح وسيلة التواصل جهة قريبة من حماس في غزة حيث كانت بداية التواصل مع غازي حمد الذي كان يومها ناطقا باسم الحكومة التي يرأسها إسماعيل هنية وكل ذلك في نهاية أبريل 2006.
من جانبه حاول باسكن استثمار علاقته مع دانا اولمرت، ابنة ايهود اولمرت رئيس الوزراء (الإسرائيلي) آنذاك، في نقل رسائل غير رسمية على مدار الأشهر الثلاثة التالية بين حماس (من خلال حمد)، ورئيس الوزراء (الإسرائيلي) ايهود اولمرت، لتنشيط مفاوضات صفقة تبادل ويقول: "شعرت أن محاولتي للتوسط ونقل الرسائل من حماس لم تلق اهتماما من أولمرت بل أدركت انه طلب من ابنته وقف الاتصالات معي".
لكن في كل الأحوال تم فتح قناة سرية مهمة سيكون لها شأن كبير تحديداً خلال الأعوام 2010 و2011 ولعبت هذه القناة دورا مهما في نجاح صفقة تبادل الأسرى جرى خلالها تبادل رسائل بين قائد القسام أحمد الجعبري ومسئول ملف المفاوضات ديفيد ميدان، والنموذج التالي صورة لمحادثة بين حمد وباسكين خلال العام 2011:
Ghazi:
he should not doubt about the intention of Jaabri
Gershon:
especially for people who see themselves as leaders in Gaza - in Hamas - is that once this issue is behind us, the whole development of Gaza will take a positive turn
the high unemployment
Ghazi:
Jaabri talk to me as David talk to you
Gershon:
the lack of infrastruture
econopmic development
etc.
Ghazi:
I agree with you but u know we have 10000 prisoners and most of them didn’t see their families since 4 years
Gershon:
No, most of the prisoners have regualr visits
and red cross visits all the time
Ghazi:
we should feel with the other side
وللإشارة الى حجم التواصل عبر هذه القناة يقول باسكن متهكما: "أعتقد أن أي شخص يطلع على فواتير هاتفي على مدار السنوات الخمس من عمر المفاوضات سوف يلاحظ أن المكالمات الهاتفية التي تواصلت بها مع غازي حمد أكثر من تلك التي أجريتها مع أي شخص آخر في العالم كله".
مفاوضات تحت الحرب
لا يمكن الحديث عن المفاوضات وقنوات الاتصال والوساطات وتجاهل الأجواء الأمنية والعسكرية التي كانت تجري فيها حيث بذلت (إسرائيل) جهودا أمنية استخبارية وعسكرية "مضنية" للعثور على الجندي، بما فيها الوسائل التقنية الإلكترونية الدقيقة، بجانب تشغيل عدد هائل من العملاء والمتعاونين والجواسيس، ووصل الأمر بها لأن تعلن عن منح جائزة تقدر بـ10 ملايين دولار لكل من يدل على مكان أسره، ومع ذلك، فلم يكن لكل هذه المغريات أي أثر أو جدوى.
ولا يخفي د. غازي حمد صعوبة التفاوض حتى عبر قناة غير رسمية وغير مباشرة في ظل هذه الأوضاع خصوصا أنه كان يتواصل مع قائد القسام أحمد الجعبري الذي اغتالته دولة الاحتلال بعد نحو عام من إتمام صفقة وفاء الأحرار، ويضيف: في رأيي الشخصي أنه مع انتهاء صفقة وفاء الأحرار كان هناك قرار (إسرائيلي) بإنهاء الجعبري رحمه الله.
ولا تزال الأجهزة الاستخبارية (الإسرائيلية) تجد صعوبة في شرح أسباب "الفشل المدوي للعمى الاستخباري الذي استحوذ على (إسرائيل) طيلة 64 شهرا"، وهذا الفشل، بحسب محللين (إسرائيليين)، منع (إسرائيل) من تخطيط وتنفيذ عملية لإطلاق سراحه بدلا من الحاجة إلى إجراء صفقة تبادل أسرى مؤلمة "منحت حركة حماس إنجازا عسكريا واستخباريا وسياسيا ونفسيا مذهلا
فقد اعترف رئيس الشاباك السابق يوفال ديسكين بفشله الشخصي. كما أن وريثه في المنصب يورام كوهين اعترف بفشل الشاباك أيضا. ولكن الحديث عن فشل أجهزة، وليس عن جهاز واحد فقط حيث أن الوحدة 8200، وحدة جمع المعلومات المركزية التابعة لشعبة الاستخبارات في الجيش، تتحمل مسؤولية الفشل أيضا وإن كان بنسبة أقل. وحتى رئيس الموساد السابق مئير دغان ومع تركه لمنصبه في مطلع العام 2011 اعترف بالفشل في الحصول على معلومات عن مكان احتجاز شاليط، مشيرا إلى أن ذلك كان الأكبر في ولايته في رئاسة الموساد.
من أرشيف صحيفة الرسالة
يتبع..