قائمة الموقع

مقال: عودة إلى قراءة الموقف الإسرائيلي من انتفاضة الحجارة

2010-12-09T07:28:00+02:00

د. عدنان أبو عامر 

فيما يحيي الفلسطينيون هذه الأيام الذكرى السنوية الـ23 لاندلاع انتفاضة الحجارة، يجدر بنا العودة قليلاً إلى الوراء، لمحاولة التعرف على أبرز السياسات الإسرائيلية تجاهها: سياسيا، وعسكريا، وأمنياً.

فقد جاء رد فعل "إسرائيل" الأولي على أحداث انتفاضة الحجارة، متمثلا بإشهار قبضتها الحديدية في وجه الفلسطينيين ، وكان رد فعلها أقل ما يقال عنه أنه هستيري ، وللوصول إلى تفسير ذلك ، ينبغي التطرق إلى التفسيرات الإسرائيلية للانتفاضة ومنهج وأساليب التعامل معها ، التي تراوحت بين عدة اتجاهات.

فقد وجه عدد من المثقفين الإسرائيليين نداء بعنوان ( كفى للقبضة الحديدية ) نشر في الصحافة الإسرائيلية بعد زيارة قاموا بها إلى قطاع غزة ، جاء فيه : " هناك في قطاع غزة انتفاضة جماهيرية يقودها شباب ، وتدعمها كل الجماهير ، ولا شك أن التنظيمات السياسية تؤجج لهيب الانتفاضة ، لكنها ليست هي التي أطلقتها ، وكان ذلك بسبب المهانة التي ولدها استمرار الاحتلال ، ومصادرة الأراضي ، والضغط المستمر لقوات الأمن بهدف إجبار الناس للتعامل معها ، والوضع الاقتصادي الذي يعيشه غالبية السكان ، وبشكل خاص غياب الأمل في أي حل " .

كما باغت اندلاع الانتفاضة الأوساط الإسرائيلية ، وفاجأتهم قوتها وشموليتها واستمراريتها ، التي اعتقدت بأن "إسرائيل" استطاعت خلال العشرين عاما السابقة إلحاق الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين بها ، وتحييد الغالبية العظمى من أهلها ، ولم يكن يخطر ببال تلك الأوساط أن سكان المناطق سيجرؤون على تحدي السلطة العسكرية المطبقة عليهم بانتفاضة شعبية عارمة .

ففي أبريل 1987 سأل صحافي إسرائيلي منسق الشؤون الخاصة في وزارة الدفاع شموئيل غورن : متى سيبدأ التمرد في المناطق ؟ فأجابه بلهجة واثقة : لن يكون هنالك تمرد أبدا ، فسأله الصحفي : هل أنت واثق مما تقول ؟ فأجابه : أتراهن ؟!

** الإرباك سيد الموقف

وقد أصاب الارتباك القيادة الإسرائيلية السياسية والعسكرية على حد سواء ، لأنها لم تستطع تحديد طبيعة الانتفاضة بدقة : هل هي حرب ؟ وإذا كانت كذلك ، كيف يمكن التعامل معها وبأية وسائل ؟ وإذا كانت تمردا كيف يمكن وضع حد له ؟ أم هي نزاع طويل وإلى متى سيستمر ؟ " وساد اتفاق في الحكومة الإسرائيلية على أن الانتفاضة حرب بقواعد مختلفة ، ورفض معظم الوزراء اعتبارها نزاعا طويلا ، بل كان معظمهم يريد أن يرى الانتفاضة وكأن في الإمكان القضاء عليها دفعة واحدة بحل عسكري ، وثمة من يرى أن أحدا لا يعترض على أن الانتفاضة هي حرب في كل شيء ، وهي أسوأ وأصعب من جميع الحروب التي مرت بها "إسرائيل" لأنها حربا متواصلة وطويلة،وقريبة من بيتنا ".

وقد بقيت القيادة الأمنية العسكرية الإسرائيلية غارقة في غطرستها ، وأعماها جمودها الفكري وعنصريتها عن فهم الانتفاضة لحظة انفجارها ، ولم تستطع رؤية الظواهر الجديدة في الحركة الشعبية الفلسطينية كما هي ، ولم تستطع قراءتها بصورة موضوعية مجردة عن عنجهية المحتل ، وتعاملت معها باعتبارها تكرارا لأحداث (الشغب) التي تعودت عليها سنوات طويلة ، وظن أركان القيادة العسكرية الإسرائيلية أن بإمكانهم السيطرة عليها بسهولة خلال أيام معدودة بالأساليب والوسائل القديمة ، هكذا كانوا مقتنعين ، وهكذا كانت تقاريرهم للقيادة السياسية ، وبسببها " رفض رابين الأخذ بنصيحة بعض مستشاريه بقطع زيارته لواشنطن والعودة إلى "تل أبيب" لمعالجة الموقف ، وهي التي شجعته على إطلاق تصريحات عنجهية من واشنطن قال فيها : بعد أيام سأعود إلى "تل أبيب" ، وعندها ستنتهي حركة الشغب الجارية في المناطق " .

وربما يصطدم المراقب بعدم رؤيته لوجود تقييم إسرائيلي واحد للانتفاضة ، فهناك تقويمات إسرائيلية متعددة لها ، بل لكل مظهر من مظاهرها ، وحتى لو اتفق إسرائيليان على تشخيص بعض جوانبها ، فإنهما لا يخلصان من ذلك ، إلى استنتاج واحد ، وما يلبث المراقب أن يلاحظ أن نظرة الإسرائيليين للانتفاضة محكومة إلى حد بعيد بمواقف سياسية وأيديولوجية مسبقة ، أي أن كل طرف ينطلق من تقويمه لها من موقع سياسي معين ، ويخلص بالتالي إلى الاستنتاجات التي تنسجم مع آرائه وتوجهاته .

وبعد فشل هذه التهديدات في إخماد لهيب الانتفاضة ، حدثت أزمة في الاطمئنان النفسي الإسرائيلي للقوة العسكرية ، إذ لم تعد "إسرائيل" قادرة على اعتماد ما تحصلت عليه من أسباب القوة لإخماد وهج الانتفاضة المتنامي ، بعد أن فرضت عليها نمطا من المواجهة لم يحسب العقل الاستراتيجي الصهيوني حسابه ،وبالتالي نجحت الانتفاضة في تحييد هذه القوة العسكرية وشل فعاليتها .

ولأن السياسية الإسرائيلية فوجئت بزخم الانتفاضة ، فقد تمثل رد فعلها المباشر في التقليل من شأن الانتفاضة ومحاولة سحقها عسكريا ، وبأن أحداث الانتفاضة لم تكن منظمة ، غير أن هذه المحاولات لم تكن سوى محاولة آنية فاشلة لطمأنة المستوطنين ، الأمر الذي لم يدم طويلا ، مما دفع ممثلي الأحزاب والقوى السياسية الإسرائيلية إلى دعوة حكومتهم لممارسة أقصى درجات العنف ضد الانتفاضة ونشطائها ، ولعل ذلك ما دعا إسحاق رابين فور عودته من الولايات المتحدة لإعادة السيطرة الكاملة للجيش على المناطق خلال أيام معدودة ، الأمر الذي يعني عمليا إبداء الاستعداد لاستخدام القوة بصورة واسعة ضد من يقومون بالإخلال بالنظام .

**مفاجأة غير متوقعة

وسرعان ما دفعت قوات الاحتلال بقواتها العسكرية ، حيث وصلت عدد كثافة جنودها أكثر من عددها يوم احتلال الضفة والقطاع ، بل زادت في بعض المناطق بنسبة 200-300% ، إضافة لاستخدام المجنزرات ، والطائرات المروحية ، والأسلحة المتطورة في مواجهة الجماهير ، والقمع والاعتقالات الجماعية للآلاف والتعذيب والبطش بصورة وحشية .

وكان واضحا من تلك الإجراءات أن "إسرائيل" أضحت أسيرة فكرة واحدة هي القضاء على الانتفاضة ، وتحطيم أوهام الفلسطينيين الذين يعتقدون بإمكانية تحقيق شيء عن طريق المظاهرات والمقاومة .

لقد جاء رد الفعل الإسرائيلي على الانتفاضة ، معبرا عن فقدان الأعصاب ونفسية العنصرية ، وتجلى في انتهاج سياسة القتل والإرهاب وإحكام القبضة الحديدية والضرب ، وكل أشكال التعسف ، ولنا أن نقف بخاصة أمام تصريحات إسحاق شامير ، وإسحاق رابين ، وشمعون بيريز ، وأريئيل شارون ، التي كشفت عن رد الفعل هذا : فشامير يجاهر بأن على الجيش الإسرائيلي أن يرعب الفلسطينيين حتى يسكنوا وتسكن حركتهم ، ورابين يجاهر بأنه سيتابع إصدار الأوامر للجنود كي يقوموا بجرائمهم ، وبيريز يتابع تصريحات زخرف القول ، وشارون يهدد ويتوعد الفلسطينيين والعرب والعالم كله.

وكان رد الفعل الإسرائيلي على الانتفاضة في حالة تصاعد مستمر ، فالقتل والضرب ، وسياسة تكسير العظام ، واستعمال الرصاص المطاطي ، والرصاص الحي ، والاعتقالات  العامة ، والاستثنائية ، والوقائية ، وفتح ثماني سجون جديدة ، وإغلاق المدارس والجامعات والكليات ، واحتلال المدارس المغلقة وتحويل بعضها إلى معسكرات جيش ومراكز اعتقال ، وتعميم سياسة العقوبات الجماعية مثل : القيود المالية ، هدم البيوت ، مراقبة الصحافة ، والاعتداء على الصحافة الأجنبية ، واعتبار اللجان الشعبية خارجة عن القانون ، وإقفال المؤسسات والجمعيات الخيرية ، والقيود الاقتصادية كمنع تصدير بعض المحاصيل ، وفرض منع التجوال وخاصة على القرى والمخيمات البعيدة .

وبقدر ما كانت الانتفاضة مفاجئة لسلطات الاحتلال ، فقد جاءت صورة القمع الإسرائيلي لها مفاجئة للرأي العام الغربي ، الذي اعتاد على سماع الخطاب السياسي الإسرائيلي الموجه عن أوضاع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة بصورة معينة ، خاصة الصورة النمطية التي تقدمها أجهزة الإعلام الإسرائيلي عن ديمقراطية إسرائيل ، مقابل الصورة النمطية للإرهاب الفلسطيني المسلح الذي يرغب في تقويض الدولة اليهودية ، فقد كانت المفاجأة عندما نقلت وسائل الإعلام صور دق عظام الأطفال ، إجهاض الحوامل ، فقأ العيون ، بل ودفن الأشخاص أحياء . وبعد أشهر فقط على اندلاع الانتفاضة ، تبين الموقف الإسرائيلي على حقيقته ، حيث استشرت مختلف أشكال الانتهاكات لحقوق الفلسطينيين.

** الشاباك يستنفر عملاءه

وكما ضاعف الجيش الإسرائيلي من عدد جنوده ، فقد سارع جهاز المخابرات العامة "الشاباك" إلى إعادة بناء شبكات عملائه هناك ، وتعهدت السلطات بسحق الانتفاضة ، بالقوة والجبروت والضرب ، وفرضت جملة من الإجراءات العقابية على السكان المدنيين ، وخفضت المبالغ النقدية التي يمكن للمسافرين الوافدين إلى الأراضي المحتلة إدخالها من خمسة آلاف دولار إلى ألف دولار فقط ، في محاولة منها لسد تدفق مساعدات منظمة التحرير الفلسطينية ، وحرمت البلدات والقرى المغالية في تمردها من تصاريح السفر والتجارة عقابا جماعيا إضافيا لها ، وأصبح إصدار جميع الوثائق الرسمية بما فيها بطاقات الهوية ورخص سياقة السيارات ، مشروطا بإثبات دفع الضرائب والغرامات العادية والجزاءات التي تفرضها المحاكم الأمنية.

            وقد أفاد جنود الاحتياط الإسرائيليين الذين أنهوا خدمتهم في الأراضي المحتلة ، بأن أعمال التخريب المتعمد للممتلكات وإساءة معاملة المدنيين العرب ، وإهانتهم من جانب بعض الجنود قد أصبحت قاعدة في السلوك اليومي لهم ، وتتراوح هذه الأعمال من إكراه الأشخاص على خلع ملابسهم أثناء عمليات التفتيش ،والضرب وأعمال التخريب المتعمد للممتلكات داخل المنازل بعد إلقاء القبض على أهلها.

لقد كلفت احتياجات قوات الاحتلال الخزينة الإسرائيلية لقمع الانتفاضة ، حسب بعض التقديرات بين ثلاثة إلى أربعة ملايين شيكل يوميا ، وذلك كأثمان لـ: وسائل قتالية، أيام خدمة في الاحتياط ، وأيام خدمة إلزامية، انخفاض السياحة، مقاطعة الفلسطينيين للمنتجات الإسرائيلية، عدم انتظام العمال في الأراضي المحتلة في أعمالهم .

ومع ذلك ، ورغم ما تقدم ، فإن المعادلة الإسرائيلية لم تتضمن بعدا جديدا ، فهي المعادلة المعروفة : المزيد من القمع يؤدي إلى رضوخ الشعب واستكانته ، وفي هذه الحالة ، تجهض الانتفاضة وتنتهي ، إلا أن الأحداث اليومية للانتفاضة ، أثبتت أنه حين أراد الإسرائيليون وقف الانتفاضة بالقبضة الحديدية ، ازداد انزراعهم في وحل المستنقع ، وجاءت الأحداث مخيبة لآمالهم ، وكان وجود الاحتلال مبررا دائما ويوميا لاستمرارية الانتفاضة.

اخبار ذات صلة