يبدو أن استفحال الاستيطان ووصوله إلى أكثر من 70% من أراضي الضفة جعل الاحتلال يعتقد أن " كل طير يمكن أن يُنهش لحمه" فتجاوز حدوده، وأقدم قطعانه على اقتحام مستوطنة "حوميش" المهجورة، التي أعلن الاحتلال الانسحاب منها في عام 2005 ضمن اتفاقية الانسحاب أحادي الجانب التي شملت قطاع غزة.
المستوطنون لا ينسحبون من أرض رغم الاتفاقيات، لكنهم ينسحبون خوفاً فقط، حاولت قطعانهم المتسللة ليلا تحويل المستوطنة المهجورة إلى بؤرة لعصابات "جباية الثمن" الإرهابية، التي تعمل على تعزيز شراسة الاستيطان وتدفع له مقابل هجماته على الفلسطينيين.
وفي ظل الصمت الذي اعتقد المستوطنون أنهم في حمايته، تجاسروا وهجموا على الأهالي المارين في الطريق المؤدية إلى قرية برقة والخارجة منها، فوقعوا في فخ الفلسطيني الذي لا يقبل المهانة، رغم أن ذاكرة استيطانهم تمتلك كثيراً من الهجمات الفاشلة على برقة.
صلاح الخواجا المختص بقضايا الاستيطان تذكر معنا برقة قائلاً: إن البداية كانت في شق الطرق ومصادرة أراضي برقة مع سبسطية التاريخية، إلى مصادرة جزء من أراضيها من خلال "حميش" التي أخلاها المستوطنون لأنها ساقطة أمنياً لوقوعها بين قرى فلسطينية، لافتاً إلى أن المستوطنين أعادوا هجماتهم عليها مرة أخرى في 2008 ثم 2013 ثم 2018 وفي كل مرة تسقط المحاولة أمام عناد أهالي برقة.
هذا الشهر، وبعد محاولة استيطانية جديدة، وقعت أول عملية إطلاق نار بعدما فاض الكيل لدى أهالي برقة يوم السادس عشر من ديسمبر الجاري، وقتلت أول المستوطنين وأصابت آخر، فصعقت المفاجأة عصابات "حوميش" فاستشرسوا وعاثوا بالقرية فساداً وانتقاماً.
"ولم يكذب الفلسطينيون خبراً" فهجموا هجمة جيش واحد للوقوف إلى جانب أهالي برقة بعدما رفع القرويون نداءات استغاثتهم عبر مكبرات الصوت في المساجد؛ للتصدي لخطة المستوطنين المهاجمين كالقطعان فيحرقون في طريقهم كل بيت وقرية وإنسان.
لبى الفلسطينيون النداء، فجأوا يتراكضون من سبسطية وجنين وطولكرم إلى برقة؛ لمواجهة المستوطنين، الذين تحولوا في غمضة عين إلى جيش مسنود بالمركبات العسكرية والمعدات والعتاد، وفي نيتهم العودة للبؤرة المخلاة.
دخلت قوات الاحتلال لتعاقب البلدة عقاباً جماعياً بإغلاق سبعة عشر مدخلاً حتى لا ينسل منها أبناء البلدات الأخرى خاصة بلدة سبسطية وهي طرق مشتركة دخل منها أهالي القرى الأخرى إلى البلدة في الليلة الحامية ليثأروا، فسقط في الليلة الأولى أكثر من مائة وثلاثين جريحاً، إضافة إلى مئات الحرائق في البيوت.
كل المعطيات على الأرض تشير إلى أن المستوطنين لازالوا على نواياهم مطالبين بدعم الحكومة "الإسرائيلية" لهم مادياً ليكملوا نحو هدفهم، بالإضافة الى مطالبة حشود المستوطنين بالتجمع، وإعلانهم من خلال ملصقات بعدم اعترافهم بالاتفاقيات الموقعة، ولا زالت برقة تزداد عناداً كلما زاد عناد الاستيطان.
حتى اللحظة، لا يزال مرابطو برقة يحرسون بواباتها ويعسكرون فوق التلال والجبال، ويسمعون هتافات المستوطنين ودعواتهم لقتل المرابطين في ظل انحياز جيش الاحتلال لهم.
بالعودة إلى صلاح الخواجا، أكد أن هذا الذي يحدث اليوم هو انتقام يريده الاحتلال من بيتا وعصيرة الشمالية وبرقة وكل المدن الشمالية التي تمثل بطولة جبل النار ولا تسمح للاستيطان حتى اللحظة بأن يمر.
يقول الخواجا إن جذور برقة التاريخية والبطولية ليست وليدة اليوم، فهي تحمل سيرة ذاتية طويلة من البطولات، إنها بلد الشهداء الذي قدم 58 شهيداً منذ عام 1988، وقد كانت من أوائل البلدات التي شاركت في المقاومة الشعبية مع بداية الانتفاضة الأولى، وتلك الرشقات التي يقومون بها اليوم ليلاً عمرها أكثر من خمسة وثلاثين عاماً.
خمس وثلاثون عاما من المقاومة التي تعرفها برقة حتى أنها أعلنت يوماً في تظاهرة خلال الانتفاضة الأولى أنها جمهورية المقاومة المستقلة التي لا تنوي أن تكون غير ذلك.
صادر الاحتلال، وفق الخواجا، 1200 دونم من أراضي القرية من 18 ألف دونم هي مجمل مساحة القرية، ولم تكن صدفة بأن أقل منطقة وصلها الاستيطان كانت برقة، وهي التي أجبرت الاحتلال على إخلاء مستوطنة "حميش" في 2005، وهذا ما يغيظ الاحتلال أكثر، ويجعل من البلدة شغل المستوطنين الشاغل.
لا تملك برقة جيشاً قوياً، ولا سلطة أو حكومة تستند إليها كجدار يحمي ظهرها في معركتها غير المتكافئة، لكنها تملك يقين صاحب الحق، الذي يمسك زمام الأمور ويقف على بوابة الطريق المؤدية إلى برقة.