على مشارف قرية "بُرقة" يقف "ظريف الطول" شامخاً، وهو يرتدي زيه الفلسطيني ويحمل "شاعوبا" على ظهره – أداة الفلاح لجمع المحصول- يستقبل بابتسامته التي يخفي شارباه بعض ملامحها أهالي قريته بعد عودتهم من حراثة الأرض أو أعمالهم الحرة.
"ظريف الطول" يمر عليه كبار القرية وصغارها، يلقون عليه همومهم ثم يرحلون حيث شاؤوا، لكن مهلاً هو ليس رجلاً حقيقياً بل مجسماً حديدياً نحته ابن بُرقة الفنان التشكيلي موسى أبو عصبة ليروي حكاية تمرد بقيت عالقة في ذاكرة كل فلسطيني على مر العقود، فتارة يقصها الرواة بأغنية تراثية وأخرى بحكاية شعبية يأخذ منها أصحاب الأرض العبرة.
تسأل "الرسالة" الفنان أبو عصبة "لماذا ظريف الطول؟"، فيجيب: "يشبهنا. فهو الفلاح المحب لأرضه ويستميت في الدفاع عنها"، موضحاً أن الواقع لا يزال يشبه الماضي خاصة أن محاولات الاحتلال الإسرائيلي مستمرة في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية ومصادرتها.
ويحكي أن قريته التي يسكنها حوالي 13 ألف نسمة فيها الكثير من الرموز التراثية التي لا بد من إحيائها، ففكر حين رُممت البلدة القديمة في بُرقة بصنع معلم يحث أهالي القرية على مواصلة التمسك بأرضهم والدفاع عنها في الوقت الذي يسعى المستوطنون للاستيلاء عليها، حتى اهتدى إلى نحت "ظريف الطول".
نُحت مجسم ظريف الطول من الصلب، وبطول مرتين وعرض متر واحد، ويزن حوالي 160 جراماً. استخدم عند تشكيله أجود أنواع الصلب ليتحمل عوامل الطقس، واستغرق شهرين للانتهاء منه.
لم يكن المجسم الوحيد الذي نحته الفنان أبو عصبة، لكنه اختاره تحديداً لقريته لأنها تشتهر بالفلاحة والزراعة وفيها أشجار زيتون كثيرة مقارنة مع القرى المجاورة، لذا كان وفق تصوره "ظريف الطول" المناسب.
وعن هدفه من اختياره لتلك الشخصية يقول ابن برقة: "أردت أن أدحض في البداية رؤية كل من يظن أنه صنم. صممت المجسم ليبقى في ذاكرة الأجيال القادمة، موضحاً أن المجسمات والتماثيل أيضاً تعبر عن حضارة الشعوب، معلقاً "فما بالك لو كانت الحضارة الفلسطينية الخصبة بالرموز المرتبطة بالأرض والثورة.
ويستذكر موقفاً لحفيده الصغير "حسام" حين يمر بجانب المجسم ويردد "هاد سيدو"، ويعقب بات المجسم مرتبطاً بذاكرة الأطفال أيضاً، يسألون عنه فنسرد لهم حكايا الأرض والتراث المرتبطة بظريف الطول.
ورغم أن أبو عصبة لم يدرس الفن بل الهندسة الميكانيكية إلا أنه برع في نحت العديد من المجسمات الوطنية بهدف تعزيز الانتماء الوطني والمحافظة على أصالة التراث الفلسطيني، وليعزز أيضاً لدى الجيل الجديد فكرة الوجود التي يحاول الاحتلال طمسها وتهويدها ليمحيها من الذاكرة الفلسطينية والعربية.
وخلال حديثه عن الفن الذي برع فيه، ذكر أنه خلال اعتقاله لأربع مرات في الانتفاضة الأولى كان يرسم على حجارة النقب الملونة. كان رفاقه الأسرى يطلبون منه النحت والنقش على تلك الأحجار لتكون ذكرى لذويهم خارج المعتقل.
ولدى الفنان أبو عصبة مجسم آخر يمثل حنظلة لكنه لم يبصر النور بعد، وسيكون جاهزاً في القريب لتعزيز صمود أهالي بُرقة في الوضع الحالي، خاصة بعد اعتداءات المستوطنين على السكان ومحاولة السيطرة على أراضيهم.