يبدو أن السلطة الفلسطينية تتعمد إبقاء موظفيها في المحافظات الجنوبية "قطاع غزة"، في حالة من عدم الاستقرار الوظيفي؛ عن طريق التلاعب برواتبهم ونسب صرفها من شهر لآخر، وعدم مساواتهم بنظرائهم في الضفة الغربية.
ومنذ أعوام، تتذرع السلطة، بين الحين والآخر، بأنها تعاني من أزمة مالية، لتقدم على الاستقطاع من رواتب موظفيها؛ وفي أكثر من مرة، طال الاقتطاع غزة وحدها لأنها الحلقة الأضعف.
وتعود بدايات هذه الأزمة السياسية إلى العام 2007، حينما أحالت السلطة عشرات الآلاف من موظفيها في غزة للتقاعد المبكر، رداً على إدارة حركة حماس للقطاع، وتحميلها المسؤوليات كافة لإدارة شؤونه.
وأوقفت السلطة، منذ 2007، إصدار أي استحقاقات وظيفية لمن تبقى من موظفيها في غزة، التي تشمل (العلاوات الإدارية السنوية، والترقيات، والاستحقاقات المالية).
واستمر هذا الحال حتى شهر آذار/ مارس 2017، حينما دخلت المرحلة الثانية من عقوبات السلطة على غزة، التي شملت خصم ما نسبته (30-50%) من رواتب موظفيها، بالإضافة إلى إحالة الآلاف منهم إلى التقاعد العسكري والمالي الإجباري.
وكان مدير عام الموازنة، فريد غنام، أشار في نيسان/ أبريل 2019 إلى أن السلطة أحالت منذ آذار/ مارس 2017 قرابة 27 ألف موظف للتقاعد المبكر، وبذلك استقر عدد موظفيها عند 133 ألفاً، منهم 33 ألفاً في غزة، وما يزيد عن 100 ألف في الضفة الغربية.
مصير مجهول
ومع بداية 2021، التي تزامنت مع مرسوم إجراء الانتخابات العامة -قبل أن يلغيها رئيس السلطة محمود عباس- أوقفت السلطة الاستقطاع من رواتب موظفيها، فيما بقيت مستحقاتهم على مدار الأربع سنوات مجهولة المصير، وترفض السلطة التطرق إليها أو الحديث عن أوجه إنفاقها.
وبعد عام من استقطاعات الرواتب على موظفي قطاع غزة، وإحالة الآلاف منهم للتقاعد، جاء أول اعتراف من رئيس الحكومة السابق رامي الحمد الله، بتاريخ 26/11/2018 أن حكومته اتخذت إجراءات تشمل (35) ألف موظف، في البداية وصرف (75%) من رواتبهم، وتراجعت النسبة إلى (50%)، مشيراً إلى "أن حقوقهم ستكون محفوظة وفي حال إنهاء الانقسام سنجدول مستحقات الموظفين في قطاع غزة ودفعها لهم"، على حد زعمه.
وكان رئيس الحكومة الحالي في رام الله، محمد اشتية، قد أقر منذ تسلم مهامه في نيسان/ أبريل 2019 مبدأ توحيد نسب صرف الرواتب، ووقف التمييز ضد موظفي قطاع غزة، إلا أن تطبيق هذا القرار جاء في خضم الحديث عن الترتيب لإجراء الانتخابات مع بداية الماضي، وبقي مصير مستحقات الموظفين مجهولاً!
ومؤخراً، تذرعت السلطة الفلسطينية بأنها تعاني من أزمة مالية خانقة، وسط تلميح من قيادتها إلى عدم القدرة على دفع رواتب الموظفين وإمكانية العودة إلى الاستقطاع من رواتبهم مجدداً؛ لمعالجة الأزمة المالية.
معد التحقيق حاول البحث عن مصير الاستقطاعات من أموال موظفي السلطة في قطاع غزة خلال فترة العقوبات، وتسليط الضوء على إيرادات ونفقات السلطة على القطاع.
وكان وزير التنمية الاجتماعية في حكومة اشتية، أحمد مجدلاني في تصريحات صحفية نهاية شهر أكتوبر، قال إن هناك إشكالية في إمكانية صرف حكومته لرواتب موظفيها خلال الشهور المقبلة، وذلك في ظل الأزمة المالية التي تعاني منها.
وبحسب مجدلاني، فإن العجز المالي لدى الحكومة بلغ 400 مليون شيكل شهرياً، مبيناً أن الإيرادات خلال العام 2021 تتراوح ما بين 800 مليون و820 مليون شهرياً، على حد زعمه.
وعلى خلاف ما تحدث به مجدلاني، وخلال تنقيب معد التحقيق والبحث والتدقيق في المعلومات، فإن التقرير السنوي الصادر عن "الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة – أمان" يناقض ذلك، ويكشف عن زيادة في نسبة الإيرادات منذ بداية 2021 بحوالي 6% وزيادة على إيرادات المقاصة بسبب ارتفاع الأسعار، وهي زيادة في ضرائب الدخل بالقيمة المضافة.
ائتلاف أمان: إيرادات السلطة زادت 6% وانخفض الإنفاق العام إلى 30%
ووفق تقرير مؤسسة أمان، فإن هناك انخفاضاً في الإنفاق العام لدى السلطة الفلسطينية 2021 بنسبة تفوق الـ 30% مقارنة بالعام 2020، مما يعني أن التذرع بالأزمة المالية والعجز في الموازنة قد يكون أمراً مفتعلاً.
دون حسيب ورقيب
وخلال بحثنا في هذه القضية، فإن الناطق باسم الحملة الشعبية للدفاع عن حقوق موظفي المحافظات الجنوبية رامي أبو كرش، كشف عن أن حجم الاستقطاعات من رواتب موظفي السلطة في قطاع غزة على مدار الأربعة أعوام السابقة تفوق قيمته 415 مليون دولار.
ويؤكد رامي أبو كرش في حديثه لـ "الرسالة" أن الحكومة وقيادة السلطة ترفض التطرق أو الحديث معهم عن مصير هذه المستحقات، التي تمت دون أي حسيب أو رقيب، ويتساءل في الوقت ذاته: "إذا أرادت أن تستقطع السلطة من أموال الموظفين مجدداً فأين مستحقاتهم السابقة؟!".
أبو كرش: 415 مليون دولار مستحقات نتيجة الاستقطاعات من الرواتب
ويضيف أن السلطة تعودت في أي أزمة تعانيها أن تصدّرها إلى الموظفين وتمارس التقسيم والتمييز الجغرافي بين الموظفين تحت شمّاعة الأزمة المالية.
ويبين أن الأزمة المالية باتت فزّاعة تصر السلطة على أن تبقى ترهب بها الموظفين والأصل أن تتحمل هي والحكومة هذه الأزمة ولا يتم تحميلها للموظفين، كون الرواتب بطبيعة الحال هي المحرك الرئيسي للاقتصاد في الشارع.
ويشدد أبو كرش على أن الحل الأمثل للأزمة المالية يكون في تقنين الحكومة للمصروفات، وموازنات ونثريات المكاتب، وبدلات المصاريف، واستثناء الموظفين من أي علاقة بالأزمة المالية.
أسطوانة مشروخة
فيما يرى رئيس نقابة الموظفين العموميين في المحافظات الجنوبية عارف أبو جراد، أن الحكومة استقطعت من رواتب الموظفين على أساس أنها تمر بأزمة مالية وهي أسطوانة نسمعها كل شهر، مع العلم أن الموظفين في قطاع غزة لا يتلقون سوى الفتات من الموازنة العامة!
ويبين أن الحكومة استقطعت، بنسب متفاوتة، خلال الأعوام الماضية من رواتب الموظفين ما بين الـ 50% إلى 25% وأحالت الآلاف للتقاعد القسري، فيما لم تدفع مستحقاتهم للتأمين والمعاشات أو تعترف بها.
نقيب الموظفين: مصير استقطاعات الرواتب مجهول
ويؤكد أبو جراد أن جميع أسئلة نقابته الموجهة لقيادة السلطة والحكومة حول مصير مستحقات الموظفين وما تم استقطاعه كان الرد عليها واحداً: "لا يوجد لدينا أي معلومات أو إجابات في هذا الملف".
ويقول: "إذا كان العجز المالي أو الأزمة المالية التي تمر بها السلطة تحديداً سيدفع ثمنها موظفو قطاع غزة وحدهم، سيكون لنا حديث مختلف، وستكون لنا ردة فعل مع مؤسسات الحقوقية وفصائل العمل الوطني".
وكان رئيس الحكومة الأسبق سلام فياض، الذي بدأت الاقتطاعات في عهده، قد اعترف مؤخراً، وفي غضون الحديث عن قرب الذهاب إلى الانتخابات، عبر صفحته الشخصية بالفيسبوك، بأن قطاع غزة لا يشكل أي عبء مالي على كاهل السلطة.
تذرع بالأزمة
ويؤكد المختص المالي ومدير عام الدراسات المالية في وزارة الاقتصاد د. أسامة نوفل أن مجموع ما تنفقه السلطة شهرياً على غزة من رواتب وأشباه رواتب ونفقات تشغيلية محدودة تقدر بـ(30-35) مليون دولار فقط، بيد أن السلطة تتحصل من أموال المقاصة من إيرادات غزة ما تزيد نسبته عن (60) مليون دولار، وهو رقم لا يشمل المنح التي تأتي باسم قطاع غزة لخزينة السلطة.
ويوضح نوفل في حديثه لـ "الرسالة" أنه، منذ الانقسام، تحرم السلطة أبناء قطاع غزة من التوظيف في المؤسسات الرسمية، وعملت على تقليص أعداد الموظفين السابقين ليصبح اليوم عددهم الإجمالي بغزة نحو (32) ألف موظف على رأس عملهم أي ما نسبته 28%، بيد أن عدد الموظفين في الضفة الغربية ارتفع إلى نحو (110) آلاف موظف.
مختص مالي: بند الإنفاق على رواتب غزة تراجع من 50 مليون إلى 20 مليون $
ويشدد على أن القضية الأخطر أن السلطة توهم الجميع أن الرواتب تشمل رواتب المتقاعدين، رغم أنه من المفترض أن رواتب المتقاعدين دفعها الموظفون مسبقاً، وبالتالي عليها أن تُخرج هذه الفئة من ضمن حساباتها.
ومن الملفت أيضاً أن الاستقطاعات طالت رواتب "المتقاعدين العسكريين" في قطاع غزة، مما يوضع علامات استفهام حول مصير صندوق التأمين والمعاشات "التقاعد" وأسباب الاستقطاع من رواتبهم!
ويضيف: "إن ما يُنفق على قطاع غزة -باستثناء فئة المتقاعدين- يتراوح بين 20 إلى 22 مليون دولار تقريباُ، بالإضافة الى حوالي 10 ملايين دولار في القطاع الصحي والتعليم وصافي الإقراض للبلديات وهو ما مجموعه لا يتجاوز الـ 35 مليون دولار مقارنة بـ 70 مليون دولار قيمة نفقات شهرية قبل العام 2017.
ويبين نوفل أن السلطة خفّضت حوالي 50% من نفقاتها على قطاع غزة وهذا ما تحدث به صندوق النقد الدولي في تقاريره بأن انخفاض الإنفاق العام للسلطة الفلسطينية جاء على حساب قطاع غزة.
ويكشف المختص المالي أن الإنفاق على بند الرواتب في قطاع غزة شهرياً، قبل الاستقطاعات بلغ 50 مليون دولار، وتراجع المبلغ إلى حوالي 20 مليون دولار بعد الاستقطاعات، مبيناً أن السلطة تلجأ دائماً إلى تخفيض فاتورة رواتب موظفيها في قطاع غزة على حساب باقي المناطق، علماً بأن السلطة تجبي من القطاع وتحقق فائضاً من هذه الجباية.
ويشدد على أن السلطة معنية بتخفيض فاتورة رواتب موظفيها في القطاع؛ بهدف خلق نموذجين أحدهما في الضفة قائم على الرخاء الاقتصادي وآخر في غزة سلبي ويعاني من تدهور اقتصادي لأسباب سياسية.
ويشكك نوفل في حقيقة وجود أزمة مالية لدى السلطة، مستشهداً بتقرير مؤسسة ائتلاف أمان وتقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي أثبتت أن الانخفاض في الإنفاق العام خلال الفترة الماضية جاء على حساب قطاع غزة، من خلال الإجراءات العقابية التي شملت: التقاعد المبكر وقطع الرواتب وتخفيض نسبة الراتب. وبالتالي، فإن حقيقة الأمر هي أن السلطة عالجت المشكلة عبر تخفيض الإنفاق على قطاع غزة.
ويلفت إلى أن السلطة تحاول الإثبات للمجتمع الدولي بأنها تعاني من أزمة مالية كبيرة، وأن المشروع الاقتصادي الذي أُقيمت عليه اتفاقية أوسلو بدأ ينهار، وهو بهدف استجداء المانحين، ولم تحصل على ما أرادت في اجتماع المانحين في النرويج قبل فترة وجيزة.
وحول مصير الأموال التي جرى استقطاعها سابقاً من أموال الموظفين، يرى نوفل أن هذه المبالغ هي أرقام حسابية ليس إلا، وبالتالي لن يحصّلها الموظفون في الوقت الحاضر، خاصة وأنها تنظر إلى قطاع غزة على أنه كيان معادٍ لها، وحتى الموظفون الذين يتبعون للسلطة يعانون من تعاملها السلبي معهم.
وعن تعمد السلطة التعتيم على البيانات المالية وما تنفقه على قطاع غزة يقول: إن توصيات مؤتمر الموازنة العامة أواخر 2021 في الضفة الغربية، كان يناشد السلطة، ويطلب منها ضرورة إظهار الحسابات المالية والبيانات الختامية الخاصة بقطاع غزة.
ويشير إلى أن السلطة قابلت هذه المطالب برفض شديد؛ خشية أن تقدح الأرقام في مصداقية السلطة مقارنة بما يعلنه مسؤولوها حول ما يتم إنفاقه على قطاع غزة.
معد التحقيق حاول الاتصال أكثر من مرة بالناطق باسم وزارة المالية في رام الله عبد الرحمن بياتنة، دون الحصول على رد.
ويتفق المختص، ورئيس تحرير جريدة الاقتصادية، محمد أبو جياب مع سابقه في أن السلطة تتعمد التعتيم على بياناتها المالية التي تخص قطاع غزة، مبيناً أن هناك تضخيماً في عمليات الإنفاق الحكومي على غزة، بينما يجري تقزيم إسهامات غزة في الموازنة العامة.
ويوضح أبو جياب لـ "الرسالة" أن السياسات الحكومية في إدارة الشأن المالي على مستوى السلطة الفلسطينية، فيما يتعلق بتأمين الإيرادات وترشيد النفقات، هي سياسات فاشلة وعقيمة، وأصبحت عبئاً على المواطن الفلسطيني.
مختص اقتصادي: السلطة تلجأ لمعالجة أزماتها على حساب الموظفين
ويبين أنه كلما زاد الضغط المالي، وتأزمت السلطة، لجأت إلى معالجة أزماتها على حساب الفقراء وطبقات الموظفين والفئات الهشة والضعيفة في السلطة.
ويشدد على أن هناك تضارباً في سياسات السلطة على المستوى المالي. فهي من جانب، تتحدث عن أزمة عميقة قد تصل إلى الاستقطاع من رواتب الموظفين، ومن جانب آخر، فإن الترقيات والإنفاق الحكومي غير المجدي لا تتوقف، والتوجهات المالية ذات العلاقة بالإعلان عن مشاريع كبيرة وضخمة في المناطق الفلسطينية لا تتوقف، وهو شيء غير مفهوم.
ويتساءل: "كيف يمكن أن تكون هناك أزمة مالية في الوقت الذي يتم فيه تعيين سفراء ومدراء جدد وصرف بدلات لكبار الضباط، ونفقات تشغيلية مهولة لديوان مجلس الوزراء ومكتب الرئيس وخلافه من المؤسسات الحكومية، التي لا تخدم المواطن الفلسطيني بصورة مباشرة".
ويشير أبو جياب إلى أن السلطة لا تعترف أن هناك استحقاقاً واستقطاعات من رواتب الموظفين في غزة، ولم يُرصد لصالح الموظفين في القطاع أي مديونية على الحاسوب الحكومي في وزارة المالية وتعد المبالغ المصروفة هي إجمالي المستحق.
وفي نهاية المطاف، يمكن القول إن السلطة التي تحاول التذرع بمعاناتها من أزمة مالية، كما ذهبت لاستقطاعات جديدة من رواتب موظفيها في قطاع غزة مجدداً؛ لأهداف سياسية. في المقابل، فإن مصير ما استقطع على مدار السنوات الماضية مجهول، ولا تعترف به، لتبقى طبقة موظفي السلطة في القطاع هي الحلقة الأضعف.