بفارغ الصبر، ينتظر الغزي هطول المطر، ليسرع إلى كانون الحطب، فيشعله ثم يدس فيه حبات الكستناء، ويضع إبريق الشاي ذا المذاق المميز الذي يعود به إلى ذكريات ماضية عن الجد والجدة وحكايتهم العتيقة.
طقوس الشتاء وعاداته الدافئة يتوارثها الغزيون.. إعداد الأكلات القديمة من العدس والبصارة والحماصيص، وكذلك الحلويات التي لا يتقنها سوى أصحاب البلد كالزلابية والعوامة والكثير من الأطعمة التي تمد أجسادهم بالطاقة وتتوفر في كل بيت فهي رخيصة الثمن، غنية بالفائدة.
وكعادته يتشبث الغزي بكل تفاصيل حياته، فرغم منغصات الاحتلال إلا أن تقديس كل الذكريات القديمة يتغلب.
وسط مدينة غزة يجلس الحاج السبعيني أبو خالد وحوله أحفاده في صالة بيته يشعل كانون الفحم، وما إن يبدأ هطول المطر يطرق الأحفاد الثمانية بابه ويطلبون أن يوقد لهم الكانون، يقول: "ما برفض لهم طلب، فرحتي بوجودهم ما بتساع الكون".
ويضيف: "أحاول جذب أحفادي بالطقوس الشتوية الجميلة بعيداً عن أجهزة "الأيباد"، فألبي وجدتُهم طلباتهم من أكلات، وأقص عليهم قصصاً يتعلقون بها ويتخذون مما فيها عبرة بعدما أربطها بالوقت الحالي خاصة وأني معلم سابق وأدرك احتياجات الجيل الجديد"، متابعاً: لم أتردد لحظة في تعزيز العادات والطقوس القديمة في نفوس أولادي وأحفادي.
وبالقرب منه، تصنع زوجته أقراص الزلابية ومشروب السحلب الساخن لأحفادها، فكل منهم يريد صنفاً مختلفاً، وهي تلبي ذلك بكل حب كما تقول، وتضيف: "نروي لصغارنا حكايات قديمة بدلاً من قصص الدمار والحروب التي عاشوها (..). نقص عليهم قصص الماضي المفعمة بالحب والحياة لترسخ في عقولهم".
وفي المنطقة الوسطى - مخيم النصيرات، تقطف أم ياسر مقداد أوراق الخبيزة الخضراء من الأرض التي تجاور بيتها وتقول ضاحكة "الحين وقت طبخها"، فهي تحرص على تحضير الأكلات الشتوية القديمة التي لم يتعود عليها، لكنها تغريهم بمذاقها حين تضع بجانبها المخللات.
كما تحكي "للرسالة" أنها وقت هطول الأمطار تعد المفتول وتصر على تجهيزه بنفسها وتعلم بناتها وزوجات أبنائها طريقة تحضيره، كما تطبخ أكلات توارثتها عن والدتها وحماتها لإعدادها في فصل الشتاء كالبامية والعدس، والملوخية والفول، والكشك والششبرك، والفتوش.
ولاتزال تحتفظ بفرن الطينة وتحفظ طريقة صناعته، فتعد عليه أشهى المناقيش وصواني "الخضار واللحوم"، فضلاً عن حلوى المطبق المحشو بالمكسرات، وبالقرب منها حفيداتها يراقبن كيفية صنعه ويحاولن تقليدها فتفسح لهن المجال.
الطقوس الشتوية يمارسها الغزيون من شمال القطاع حتى جنوبه، فلكل مكان عاداته التي تتشابه كثيراً لكن بلمسات مميزة.
أكثر من يشعر بالحنين لتلك الذكريات هم المغتربون، مثل خليل حماد الذي يعيش في كندا منذ عشرين عاماً.
يحكي "للرسالة" أنه قبل رحيله عن غزة كان يحلم بالعيش في بلد الثلوج، لكن بعدما تحقق له ذلك بدأ يلمس أن الحياة تشبه الموت فيها، خاصة في فصل الشتاء، حيث يلتزم الجميع بيوتهم دون أي طقوس.
يقول: "أول مرة فرحت كثيراً بالثلج وكنت ألعب فيه وأصنع رجل الثلج"، لكن بعد فترة شعرت أن شيئا ينقصني. فرائحة الخبز الذي كانت تعده أمي على فرن الطينة لم أشمه، حتى الأكلات التي كنت أرفض تناولها، الآن أبحث عنها في المحلات العربية، أو أطلبها من غزي زائر".
ويتابع: "حرصت على أن تكون زوجتي غزية، وقبل أن تأتي طلبت منها أن تتعلم الكثير من المأكولات القديمة التي أصبحت تتقنها ونقدمها لأصدقائنا العرب".
كما يستذكر بابور الكاز الذي كان ينزعج من صوته، لكنه يتمنى لو يجد مثله، وفي الوقت ذاته يحرص نهاية الأسبوع أن يلتقي بأصدقائه ويشعل لهم كانون الحطب؛ ليصنعوا الشاي والقهوة ويحمصوا الخبز عليه، أو يشووا البطاطا والكستنة عليه، مشيرا إلى أنه وجيرانه العرب يتشابهون في الذكريات والطقوس الشتوية، وكل منهم يتفنن في صناعة أكلة تشتهر بها بلدانهم.
ويحاول الغزيون إحياء الطقوس أمام أبنائهم وأحفادهم لتمحو ذكريات الحرب والقصف والموت التي كانوا شهداء عليها.