قائد الطوفان قائد الطوفان

المواصي.. الأرض التي غطتها الخيام وأوجاع النازحين

مواصي خان يونس
مواصي خان يونس

الرسالة نت- خاص

نسجت منطقة (المواصي) جنوب قطاع غزة قصصًا جديدة، بعد أن كانت مكانًا يلفُّه الصمت، وبدلًا من أن تكون منطقة مليئةً بالسوافي الرملية، والأراضي المزروعة بالخضراوات اليانعة، تكدست فيها الخيام، وتوسعت حتى تحول بعضها إلى بسطات شعبية مفرود عليها بضائع شحيحة، عبارة عن معلبات ومستلزمات شخصية دخلت على شكل معونات، فباعها أصحابها ليشتروا بالمال الزهيد شيئًا أكثر أهمية.
تمتد الأراضي الزراعية الشاسعة جنوب القطاع، كشاهد على انسحاب الاحتلال، ثم شاهد على مَنْ هجَّرهم الاحتلال إليها، فنسجوا في كل خيمة قصة من الأسى والوجع، حيث في كل بقعة شهيد، وحيث تعرف الأرض أسرار أصحابها ولا تبوح بها.
برز اسم (المواصي) في هذه الحرب، حينما شاركت أهلها الصمود، ولم تعد تحصى عدد مرات القصف التي تعرضت له، كما أنها استمدت اسمها من استخراج المزارعين للمياه في المنطقة عبر حفر البرك (برك امتصاصية) واستخدامها لري المزروعات، حيث تُعد منطقة غنية بالمياه الجوفية.
يقف على ناصية الطريق الحاج أبو عوض، وهو في الحقيقة شاب رسمت الحرب معالم الكهولة على وجهه، يحدثنا كيف نزح من (الشمال)، إلى خان يونس البلد، ثم نزح إلى منطقة أصداء في مواصي خان يونس: "نحن لا نعرف النوم من البرد، الشوادر مع كل ليلة تزداد بردًا، وكل يوم قصف متواصل في المنطقة التي قالوا إنها آمنة، نحن لا نعيش، والحياة في غلاء دائم، الخيام لا تمنع بردًا ولا حرًا، السقف النايلون كل صباح يغطيه الندى والماء، نسمع صوت البحر الهائج، العريشة تكاد تنخلع من الأرض، وأنا أب لسبعة أطفال وزوجتي على وشك الولادة".
دون عمل سيستقبل (أبو عوض) مولوده الثامن، ودون أفق واضح لكل هذه المأساة، ولا زال نائمًا في خيمته في أراضي المواصي الرملية، وهو يعلم أنه مقبل على ليل الشتاء الطويل البارد.
أما جميل نصر فقد نزح خمس مرات قبل نزوحه إلى المواصي، وبين النزوح والآخر قصص مليئة بالمآسي، ويعاني كغيره من صعوبة الحياة "لا طعام ولا طحين، وأنا رجل مريض أحتاج لعلاج، وليس لدي ما أقدمه لنفسي ولا لأولادي، وحينما أمطرت السماء قبل أيام غرقت الخيمة، ولا أدري ما الذي تخبئه الأيام المقبلة لنا؟!"
الحاجة جملات أم لشهيدتين، استشهدتا في شمال قطاع غزة، دون أن يعطيها الاحتلال أي حق في وداع قبل الرحيل تقول: "يقولون المواصي هي الآمنة، أو هي منطقة المساعدات، ومنذ أن أتينا لم نر نومًا أو طعامًا، لا طحين يوزع، ولا أمان فالقصف اشتد كثيرًا في كل ناحية، وقبل أيام قصفوا المنطقة واستيقظ الأولاد من نومهم مفزوعين، يركضون في كل مكان دون هدف!".
لا تنسى الحاجة جملات ما حرمت منه قبل أشهر: "استشهدت بناتي وأنا بعيدة عنهن، لقد دفنوهم في الشمال، ولم أرَ أيًا منهن، لكني دائمًا أقول، الحمد لله، لقد كرّمنا الله بهن."
تعرف (المواصي) إلى جانب قصص النازحين حكايتها الخاصة، حكاية الثبات على مدار سنوات طويلة، فقد أجبرت على تحمل الاستيطان في سنوات ماضية، حيث بدأت (إسرائيل) بناء المستوطنات في قطاع غزة بعد احتلاله في عام 67، أقامت مجمع مستوطنات (غوش قطيف) على أراضي المواصي، وصار الفلسطينيون مُحاطون بحوالي 14 مستوطنة.

لكنها أيضًا تحفظ جميل مقاوميها، وتذكر جيدًا عام 2005 ذلك اليوم الذي غادر فيه آخر مستوطن من الأرض البراح الواسعة، لتصبح ملكًا لأصحابها، ثم ها هي تدخل تحديًا جديدًا، بعدما رفع الغزي شعار (أكون أو لا أكون) في وجه المحتل الذي يريد إعادة السنوات إلى الوراء، ولكن أهل قطاع غزة يحفظون الدرس جيدًا.
(أبو غازي) واحد من النازحين في (المواصي)، أتى من رفح قبل ثمانية أشهر: "راح البيت، وراح المال، ولكن البلاد لا زالت باقية، سيفعل المحتل ما يريد لكنه لن يستطيع أخذ غزة معه حينما يغادر، وسيغادر قريبًا بإذن الله."
ظلت المنطقة الحزينة والمنقسمة إلى جزئين، أحدهما في رفح والآخر في خان يونس، هادئة دون ضجيج حتى بدأ النازحون يتوافدون إليها، فركضت وراءهم طائرات الاحتلال من كل حدب وصوب حتى بلغ عدد مرات القصف التي تعرضت لها خيام النازحين في المواصي عشرات  المرات.
ويذكر الآهالي هناك الذكريات الجديدة التي رسموها فوق الأرض التي كانت بالأمس سلة غذائية متكاملة لجنوب القطاع، لكنها تحولت الآن إلى قصص مخلوطة بدماء شهدائها: "لا أنسى حينما ضربت الطائرات في يوليو الماضي منطقة المواصي، واستشهد 90 مواطنًا، كنت قريبا من الحدث، ذلك يوم لن أنساه، وأفظع الأيام التي رأيتها في هذه الحرب"، يتابع أبو غازي.

تقول امرأة تحاول أن تشعل النار عبر موقد من الحطب، تغذيه بقطع البلاستيك التي تحرق صدور الملتفين حول النار: "أحاول أن أعيش، المنطقة قريبة من البحر، أطفالي صغار، ولا نعرف إلى متى سيطول هذا الغم، لكننا بإذن الله سنظل صامدين هنا، حتى نعود إلى بيوتنا في غزة والشمال، رغم أنف الاحتلال." 

ينام في خيام المواصي اليوم، أكثر من مليون مواطن، نزحوا من أماكن متفرقة من القطاع، اجتمعوا على أوجاع مختلفة، يتبادلون أوجاعهم كل مساء، ويحفظون عدد مرات القصف التي طالت الأرض الخضراء، ويتوقعون ما سيكون عليه الغد، وكلهم أمل وعلى لسانهم دعاء واحد، بأن تنتهي هذه الحرب، وقد رفع الله راية المقاومة عاليًا.

البث المباشر