"العلاج بالمناشدة" أسلوب بات يلجأ إليه المواطن الفلسطيني في قطاع غزة للحصول على تحويلة طبية، تسمح له بتلقي الخدمة التي قد تنقذ حياته، ففي ظل استمرار تجاهل السلطة الفلسطينية لاحتياجات المواطن في غزة خاصة في مجال الخدمات الطبية، وممارسة تمييز واضح ضده، بات أطفال غزة يموتون على أبواب المستشفيات في الضفة الغربية التي ترفض استقبالهم.
قبل أسابيع قليلة، توفي الطفل سليم النواتي على كرسي انتظار خارج أسوار مستشفى النجاح التي رفضت استقباله، رغم حصوله على تحويلة طبية من وزارة الصحة في رام الله وبتغطية مالية كاملة، إلا أن المستشفى رفضت استقبال الطفل بحجة تراكم الديون على الصحة.
المشهد ذاته يتكرر مع معظم مرضى غزة الذين يعانون من تمييز في تلقي الخدمات الطبية في مستشفيات الضفة حتى الحكومية التي يحق للمواطن العلاج فيها دون تحويلة، حتى لو كانت في المحافظات الشمالية.
تكرر مشهد الطفل النواتي مع العديد ممن جرى تحويلهم لمستشفى النجاح في الفترة الأخيرة، ما يطرح تساؤلات مهمة حول تفاصيل هذه القضية.
الأزمة أسس لها رامي الحمد الله خلال فترة رئاسته لحكومة رام الله من 2013 حتى 2019، مع استمرار رئاسته لمجلس أمناء جامعة النجاح التي تتبع لها مستشفى النجاح، رغم أن ذلك يحمل مخالفة قانونية فجة، للمادة 80 من القانون الأساسي التي تنص على أنه لا يجوز لرئيس الوزراء طوال مدة خدمته أن يمارس أي مهنة وبأي صفة كانت.
خلال ست سنوات من رئاسته الحكومة والجامعة معاً، خلق الحمدالله حالة من التبعية ووضع نظام خاص في وزارة الصحة يمنح مستشفى النجاح نصيب الأسد في التحويلات الطبية، ما دفع الكثير من المستشفيات في حينه للشكوى من هذا التمييز، وقد أجرت الرسالة تحقيقاً استقصائياً حول هذه القضية في العام 2016 بعنوان "التحويلات الطبية لـ"النجاح".. كفة الحمدالله ترجح".
التحويلات الطبية لـ"النجاح".. كفة الحمدالله ترجح
تفاقمت الأزمة مع مغادرة الحمدالله للحكومة وتولي محمد اشتيه رئاستها خلفاً له، ونتيجة للخلافات بين تيار كبير من مركزية حركة فتح والحمدالله، تم مراكمة مبالغ كبيرة من الديون المستحقة للمستشفى، حيث بلغت الديون المتراكمة حتى اليوم قرابة 400 مليون شيكل.
ومن المهم التنويه أن من يتكفل فعلياً بدفع الجزء الأكبر من فاتورة التحويلات الطبية هو الاتحاد الأوروبي، الذي توقف في العام 2020 عن دعمه للسلطة، ما ساهم في تفاقم الأزمة، لكن حتى في السنوات السابقة التي كانت تتلقى فيها السلطة مساعدات من الاتحاد الأوروبي جرى مراكمة ديون على المستشفيات، وهي سياسة تنتهجها السلطة مع العديد من المستشفيات في القدس والداخل المحتل والضفة والأردن ومصر، وهو ما يدفع ثمنه المواطن الفلسطيني من حياته وصحته.
وقد أجرت الرسالة تحقيقا استقصائيا حول أزمة مرضى الكبد من غزة الذين يجري تحويلهم للعلاج في مصر، حيث ترفض المستشفى استقبالهم بسبب تراكم الديون، في العام 2019 تحت عنوان "المعهد المصري للكبد".. التغطية المالية لمرضى غزة "شيك بدون رصيد"!
في "المعهد المصري للكبد".. التغطية المالية لمرضى غزة "شيك بدون رصيد"!
تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية في رام الله عام 2020 أكد على وجود خلل كبير في ملف التحويلات الطبية، حيث جاء فيه أنه "تم منح الأولوية في التحويلات الطبية لمستشفى النجاح دون وجود أسباب واضحة، وذلك وفقاً للبند رقم 2 من الاتفاقية الموقعة مع المستشفى عام 2013، إذ بلغت نسبة التحويلات للمستشفى في الأعوام 2016/2017/2018 حوالي 18% من مجمل التحويلات".
وذكر تقرير الرقابة المالية والإدارية، أنه أجرى رقابة امتثال على التحويلات الطبية لعامي 2018 - 2019، بهدف التحقق من سلامة الإجراءات المتبعة في إدارة التحويلات الطبية، وقد خلص إلى أن وزارة الصحة تستند في عملها إلى قرار مجلس الوزراء رقم 113 لسنة 2004 بنظام التأمين الصحي الحكومي، ولا تستند إلى نظام التأمين الصحي والعلاج خارج الوزارة رقم 11 لسنة 2006 الواجب التطبيق.
واستدرك التقرير أن الوزارة تطبق بعض بنود القانون رقم 11 لسنة 2006 فحسب، والتي جاءت في نظام التأمين الصحي والعلاج خارج الوزارة، لعلاج موظفيها بإعفاء من العلاج والأدوات والمعدات المستخدمة نسبته 100%، وهو ما يشير إلى الانتقائية في التطبيق.
وتحدث التقرير عن التحويلات الطبية للمستشفيات "الإسرائيلية"، موضحا أنه بالرغم من قرار رئيس السلطة محمود عباس بوقفها في مارس 2019، إلا أنه تم إصدار 3826 تحويلة حتى تاريخ 31.12.2019، دون أسباب واضحة تفسر سبب إصدار التحويلات.
وكشف أنه تم صرف قيمة علاج نقداً لعدد من المرضى، علماً أنهم تلقوا الخدمة الطبية في مستشفيات خارج مراكز وزارة الصحة، ودون أن تحولهم وحدة شراء الخدمة للعلاج، ومُنحت تحويلات طبية استثناءً بناءً على قرار من وزيرة الصحة، خلافاً للإجراءات المتبعة في التحويل.
وأوضح التقرير وجود اختلاف في تكلفة التحويلات الطبية الفعلية للأعوام 2016 -2017- 2018، ما بين وحدة شراء الخدمة والإدارة العامة للشؤون المالية، والتقارير الصحية السنوية الصادرة والمنشورة على موقع الوزارة الإلكتروني، وبلغت تكلفتها، وفق كشوف وحدة شراء الخدمة، (817) مليون شيقل، (849) مليون شيقل، مليار و34 مليون شيقل على التوالي، وبلغت قيمتها وفق التقارير المنشورة على موقع الوزارة (566) مليون شيقل، (431) مليون شيقل، (724) مليون شيقل على التوالي.
وكشف التقرير عن استمرار ارتفاع إجمالي تكلفة التحويلات الطبية وارتفاع أعدادها منذ البدء بإصدارها وحتى عام 2018، واستمرار ارتفاع نسبة التحويلات إلى خارج فلسطين، وبلغت نسبتها 22.3% في عام 2016، من إجمالي التحويلات وفقاً للتقارير التي تصدرها وزارة الصحة سنوياً، وهذا يتناقض مع استراتيجية الحكومة بتوطين الخدمة الطبية وتقليص نسبة التحويلات إلى 7%.
كما قال التقرير إنه اكتشف أن ما نسبته (62%) من التحويلات الموجودة على النظام لم يُحدد سببها.
ورغم وجود عدة تقارير تتحدث بوضوح عن شبهات فساد وتمييز ضد مواطني قطاع غزة فيما يتعلق بالخدمة الطبية والتحويلات للعلاج في الخارج، إلا أن الوزارة مستمرة في سياستها، فقد كشف مسؤول التحويلات الطبية في وزارة الصحة بالضفة هيثم الهدري في تصريحات صحفية أن تكلفة التحويلات الطبية عام 2020 بلغت 759 مليون شيقل، أما في العام 2021 فيتوقع أن تصل إلى حوالي 900 مليون شيقل.
هذه الأموال تُدفع في غالبيتها لمواطني الضفة بينما لا يتجاوز نصيب غزة منها 25%، ما دفع مركز الميزان لحقوق الإنسان، لإرسال رسالة إلى وزيرة الصحة مي كيلة، طالب من خلالها توضيح الأسباب والعوامل التي أدت إلى انخفاض أعداد التحويلات الطبية لمرضى قطاع غزة المحولين للعلاج خارج المؤسسات الصحية الحكومية.
وأوضح المركز في رسالته أن التقارير الصادرة عن منظمة الصحة العالمية (WHO) أشارت إلى انخفاض المعدل الشهري للتحويلات الطبية الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية لمرضى قطاع غزة إلى ما متوسطه (1670) تحويلة شهرياً في الفترة الممتدة من يناير/ كانون الثاني، حتى يوليو/ تموز 2021، وبالمقارنة مع متوسط التحويلات الطبية للعلاج خارج المستشفيات الحكومية خلال عام 2019، التي بلغ متوسطها (2790) تحويلة شهرياً، يظهر حجم الانخفاض الكبير في أعداد التحويلات.
وأشار مركز الميزان في رسالته إلى ثبات متوسط التحويلات الطبية لمرضى محافظات الضفة، مؤكدًا أن هذا يأتي في ظل استمرار تدهور خدمات الرعاية الطبية ومحددات الحق في الصحة في قطاع غزة، جراء استمرار الحصار الإسرائيلي والهجمات الحربية التي تستهدف السكان المدنيين وممتلكاتهم، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية.
واللافت أن هذا الانخفاض يستمر ويتفاقم رغم أن العام 2021 شهد عدواناً إسرائيلياً على قطاع غزة نتج عنه 2211 مصاباً وجريحاً ما يعني ضرورة منح غزة أولوية في التحويلات الطبية، غير أن من حصلوا على فرصة للعلاج في الخارج هم 40 حالة فقط، بحسب وزارة الصحة في غزة.