أظهرت التطورات الأخيرة في الملف الاوكراني والتي وصلت الى إحدى ذرواتها الحاسمة بإعلان بوتن 24/2 الحرب على أوكرانيا أو ما أسماه رسمياً بالحملة العسكرية لحماية دونباس والتي شملت غزواً برياً وبحرياً وجوياً لكل أنحاء أوكرانيا بما فيها الوصول إلى العاصمة كييف رغم المقاومة التي تظهرها القوات الأوكرانية والمدعومة من أمريكا والغرب ،وما تلا ذلك من مواقف أمريكية ودولية وإسرائيلية، أظهرت هذه التطورات أمرين إثنين رئيسيين وهما :
أولاً: أن القاسم المشترك في مواقف كافة هذه الأطراف بما فيها دولة الاحتلال الاسرائيلي هو أن المصالح والاطماع المبنية على القوة الغاشمة في بعض الاحيان وبكافه اشكالها العسكرية والاقتصادية وغيرها هي ما يحدد مواقف الاطراف ويرسم سياساتها ويقرر تحركاتها على الارض وليس ما يدّعونه من مبادئ انسانية و قيم اختلاقيه كالديمقراطية وحقوق الانسان وغيرها والتي تعتمد الحوار والتعاون لحل المشاكل وتحقيق الاهداف وقد ظهر ذلك في مواقف بوتين و بايدن وبينت، بالنسبة لموقف بوتين فهو يرى بأن مصلحته الحيوية لا تختلف كثيراً عن مصالح الدول العظمى وتقضي باعتبار وجود أي معارضة لروسيا ولسياساتها وتحديداً على حدودها المباشرة كأوكرانيا وخصوصاً إن كانت متحالفة مع خصومه واعدائه في الناتو خطراً يجب تصفيته بأي وسيلة كانت وهو يرى بأن الغرب لم يستجب لمطالبه ولم يجب على تخوفاته فاضطر لتغيير سياساته من سياسة حافة الهاوية التي استخدمها حتى اللحظة الأخيرة الى سياسة (اقتحام هذه الهاوية و ليحدث ما يحدث) وذلك بصرف النظر عن موقف الشعوب واراداتها غير المعتمدة في أعراف سياسيي العالم، لماذا لا يكون موقف بوتين من أوكرانيا مقدمة لانتزاع روسيا مكانتها التي تراها محرومة منها في النظام الدولي الذي تقوده أمريكا وخاصة بعد التراجعات الأمريكية والتقدم الصيني والروسي في العالم؟
بماذا يختلف بوتين عن بايدن أو حتى عن الصغير بينت؟
فهل تقبل أمريكا أن تتحالف المكسيك مع الصين أو روسيا على سبيل المثال؟ وهل ترضى اسرائيل المستوطنة بإيران على حدودها الشمالية؟
هو إذاً نفس المنطق الذي يحكم العالم اليوم والذي لم تعد أمريكا قادرة على احتكاره بعيداً عن روسيا أو الصين ولتذهب العدالة وحقوق الانسان الى الطنطورة أو دير ياسين أو حتى حلب وإدلب، وبناء على هذا المنطق الظالم فمن المتوقع أن تأخذ تطورات الازمة الأوكرانية - الحرب على أوكرانيا أحد ثلاثة مسارات :
المسار الأول: قيام بوتين بالسيطرة على كامل أوكرانيا وكل مراكز الحكم والسياسة فيها وهو ما يبدو من الضربات العسكرية الروسية الشاملة لكل أنحاء أوكرانيا التي بدت كحرب من طرف واحد بسبب موازين القوى المختلة بامتياز لصالح القوات الروسية ،وقد يمثل هذا سيطرة الدبابات الروسية على تشيرنوبل شمال كييف المصدر الرئيسي للكهرباء في أوكرانيا وقد يؤدي هذا المسار أيضاً بشكل خطير أو أقل خطورة من الاستنزاف والمقاومة الأوكرانية ضد الروس وذلك وفق التطورات الميدانية غير المحسومة حتى الأن.
المسار الثاني: اكتفاء بوتين بالسيطرة على دونباس وهو الهدف المعلن للعملية العسكرية ولكن بعد أن يضمن عدم تحول أوكرانيا -كييف للناتو ،وأكثر من ذلك فقد يعمل على تشكيل نظام سياسي لصالح روسيا أو موالي لروسيا وهو السيناريو المتفائل في هذا المجال ويتوافق إلى حدٍ كبير مع الاهداف الروسية شبه المعلنة التالية: وهي نزع سلاح أوكرانيا ونظام سياسي محايد او موالي في أوكرانيا وتثبيت الاعتراف بجمهوريتي دونباس ضمن فيدرالية أوكرانية عامة.
المسار الثالث: وهو تقدم بوتين لمناطق اخرى كدول البلطيق وعندها سيضطر الناتو التدخل وقد تتحول الحرب لمواجهة مباشرة وواسعة مع الأمريكان وهو أمر مستبعد حالياً .
قد يكون ضعف الرد الغربي على غزو بوتين لأوكرانيا سبباً في تشجيعه على الاستمرار بخياراته الصعبة كالمسار الاول حتى الثالث .
ثانياً: أظهرت التطورات الأوكرانية أيضاً الفجوة في ذهنية بوتين والتي ما زالت تؤمن بالدور الكبير للاحتلالات والتدخلات العسكرية المباشرة وباهظة الاثمان بشرياً في تحقيق المصالح الروسية الحيوية وبين الذهنية الأمريكية والغربية التي تتوجه باستمرار وبتأثير من الليبرالية السياسية والتطور الاقتصادي نحو التقليل من دور هذه التدخلات العسكرية والاكثار من استخدام العقوبات عموماً والاقتصادية خصوصاً في الضغط والتأثير ،الأمر الذي قد يسمح لبوتين باستغلال هذه الفجوة والمضي قدماً في تحقيق أهدافه مدركاً بأن موقف الغرب لن يتجاوز ما أعلنه بايدن في خطابه في 24/2 أي عقوبات اقتصادية قد يتمكن بوتين من الصمود في وجهها أو حتى تجاوزها من خلال الصين أو من خلال ما لديه من أوراق جديدة في أوروبا والشرق الاوسط ،ويبدو جلياً بأن الموقف الاسرائيلي قد أدرك هذه المعادلات فحاول أن لا يغضب الروس وهم الطرف الأقوى لذا وقف موقفاً ملتبساً من الأزمة لضمان مصالح وأطماع اسرائيل التي تتلخص في أمرين إثنين وهما :
أولاً: استمرار عمل آلية التعاون الروسي الاسرائيلي في سوريا والتي تضمن لإسرائيل استمرار حربها على إيران وحزب الله ،أو ما يسمى بحرب مبم.
وثانياً حماية اليهود المتواجدين في أوكرانيا وخاصة في شرقها كأوديسا وغيرها ، حيث أعلنت وزاره الخارجية الإسرائيلية أنها تمكنت من إجلاء 4000 اسرائيلي من أوكرانيا خلال الأسابيع الماضية وتعمل على حماية وإخلاء من تبقى منهم والبالغ عددهم ما يقارب 8000 اسرائيلي إضافة لحماية 50 ممثلاً وموظفاً اسرائيلياً في ليفوف غرب أوكرانيا .
وفي كل الأحوال يبدو بأن أوكرانيا قد وقعت ضحية للمواقف الدولية المعتمدة على المصالح والأطماع المتوحشة لا على ارادات الشعوب وحقوق الانسان.