قائمة الموقع

مقال: الشراكة السياسية: طريق الوفاق والاتفاق والمصالحة الوطنية

2009-10-22T12:27:00+02:00

لعل القضية التي استجدت على شارعنا السياسي بعد الانتخابات التشريعية في يناير 2006 هي دخول الإسلاميين على هذا الخط وبمثل هذا الزخم الذي هزّ أركان القيادة التي كانت تمسك بتلابيب هذا الشارع لحساب كوادرها وأطرها الحركية داخل وخارج مؤسسات السلطة الفلسطينية.

لقد شكل استحواذ كتلة التغيير والاصلاح - العنوان السياسي لحركة حماس - على المشهد الأهم داخل مؤسسات السلطة إلى حدوث صدمة (تسونامي) لم تجد معه حركة فتح التي تمتلك كافة مفاتيح السلطة، وتضع يدها على كل أشكال الدعم والمساعدات والغنائم التي ترد من جهات عربية وإسلامية ودولية ( أوروبية وأمريكية ) إلا الرفض بالتسليم للقادم الجديد، وشرعت في ابتكار الحيل للإيقاع به، وإفشال مسعاه في الغيير والاصلاح.. إن من المعروف في الساحة السياسية والنضالية الفلسطينية أن حركة فتح منذ انطلاقتها في يناير 1965 وحتى تأسيس السلطة الوطنية في عام 1994 وما أعقبها من إدارة الشأن الفلسطيني في الداخل، وهي تعمل على استيعاب الآخر الوطني تحت عباءتها تاركة مساحة محدودة الأبعاد للتعبير عن هويته الحزبية، وممارسة ما يراه من أشكال النضال السياسي والعسكري، ولكن على هذا الأخر الوطني أن يفهم أن حركة فتح وقاطرتها الممثلة بالسلطة الفلسطينية هي من يقود ويحدد دروب وطرائق انجاز المشروع الوطني وفق الرؤية التي قد حددتها اتفاقية أوسلو، وتمّ تدشينها في واشنطن عام 1993.. لذلك، نعم؛ هناك قوى وفصائل وطنية داخل النسيج السياسي الفلسطيني، ولكن مساراتها متناغمة بحيث لا تنحرف عن المساق أو الغاية التي تريدها حركة فتح.. هذه القوى والفصائل لها حق الاعتراض وتسجيل مواقفها وتعبيراتها السياسية، ولكن في النهاية ما تريده حركة فتح والسلطة الفلسطينية هو ما يتوجب الإلتزام به، وإلا فإن أيديها ومؤسساتها لن تصل إلى موائد السلطة العامرة بخيرات الدعم العربي والغربي.. إن المحصلة النهائية من هذا الكلام هي أن الفصائل الوطنية لم تكن تشكل منافساً لحركة فتح يمكن أن يُرهب جانبه، ولذلك مضت السنوات التي أعقبت قيام السلطة وحتى يناير 2006 بانسجام كامل (سمن على عسل كما يقولون) بين هذه المكونات الوطنية والسلطة الفلسطينية.

حماس اللاعب الجديد

عندما بدأت حماس الدخول على خط العمل السياسي وأخذت مواقع لها في الاتحادات والنقابات والبلديات بدأ التحرش والمناكفة والصدام من جهة أجهزة أمن السلطة، التي تهيمن عليها حركة فتح، لهذه الحركة ومعطياتها المشروعة في مكونات السلطة والمؤسسات التابعة لها.. ولكنّ الصراع لم يأخذ طابع المواجهة المفتوحة، وحاولت السلطة – آنذاك - استمالة حماس وتدجينها من خلال التلويح بالعصى حيناً والجزرة أحياناً.

في تلك المرحلة لم يأخذ الصراع طابعاً دموياً، حيث استمرت حركة حماس بالمضي في خطاها نحو هدفها المنشود للوصول ـ من خلال الانتخابات ـ إلى مقعد صدق، يجعلها قادرة على إحداث التغيير والإصلاح الذي يطالب به الشارع الفلسطيني، وأن تشكل رافعة وطنية تحمي سقف الحقوق والثوابت من التدني والانهيار.

كانت حالة التآكل داخل أجهزة السلطة قد بلغت مداها جراء الفساد المستشري في كل كياناتها السياسية والأمنية والإقتصادية، لهذا كان التصويت لصالح حماس خارج كل حسابات المحللين والمراقبين، ومغايراً تماماً لنتائج واستطلاعات الرأي العام المحلية والعالمية.

حماس: البحث عن الشراكة السياسية

فازت حماس بالانتخابات بنسبة تؤهلها لتشكيل الحكومة وحدها، ولكنها آثرت – منذ اليوم الأول - التشاور والبحث مع الآخر الوطني والإسلامي مشاركتها في الحكم.. للأسف، لم تنجح جهودها في استهواء الآخرين وجذبهم لها.. ولاعتبارات اختلف الكثيرون في تقديرها، اخفقت حماس في قيام أول شراكة سياسية حقيقية لإدارة الشأن الفلسطيني الداخلي، وتعزيز قدرات شعبنا في المقاومة ومواجهة الاحتلال.

لقد كان التوجه لدى حماس هو بناء نظام حكم يقوم على مبدأ الشراكة السياسية والتداول السلمي للسلطة، ولكن محاولتها لم يكتب لها النجاح في الحكومة العاشرة، ربما لأن سقف حماس كان عالياً، وخطابها واشتراطاتها لم تكن بالمستوى الذي يعطي المجال واسعاً لرؤية وتحركات الآخرين في فصائل العمل الوطني والاسلامي.

مضت سنوات الحكومة العاشرة مثقلة بطيئة، اختلطت فيها حسابات كثيرة، ونكأت جراحاً كنّا نظنها قد اندملت، فسال الدم أبطحاً، وتحركت نزوات وعصبيات هي أقرب لثقافة الجاهلية الأولى. وأخذ الكل يعمل بنعرات "يا للأوس.. يا للخزرج.." وبعقلية "وأحياناًعلى بكرٍ أخينا"..!!

ومع إعمال السيف والرصاص كلٌّ في جسد الآخر، عاد بعض الرشد إلى الرؤس، وحطّ في جعبة هذا وذاك، فكان أن توسعت القناعة بضرورة العمل في إطار الشراكة السياسية، والتي تجلت ملامحها في حكومة الوحدة (الحكومة الحادية عشرة).

توافقنا على البرنامج السياسي، وتفاهمنا على نصيب كل واحد منّا في الوزارات من حيث العدد والشخصيات المرشحة لها، وكذلك حظوظ كوادرنا في الهيكليات، وتركنا مساحة لا بأس بها للتنظيمات خارج فتح وحماس لتأخذ مقعدها الذي يؤكد على إثبات رغبتنا في تحقيق الشراكة السياسية.

السقوط في الوحل

لم يمضِ على الصيغة التي توافقنا عليها في مكة – فبراير 2007 - سوى ثلاثة شهور حتى انهار كل ما بنيناه، وأصبحنا "كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا".. صحيح أن حماس حاولت أن تعض على جراحها وتنقذ مشروعها السياسي في الحكم، ولكن ظلت هناك أيادي تعبث في الظلام وتتربص لتخريب كل ما تمّ التوافق أو التفاهم عليه وطنياً.

لاشك أن جهات التواطؤ والتآمر كثيرة، فالاحتلال لا يريحه مشاهدة شعبنا موحداً كالبنيان المرصوص، والإدارة الأمريكية التي أعلنت "الحرب على الإرهاب"، وأدرجت حركة حماس ضمن قوائمه لا يمكنها تحمل رؤية الإسلاميين يحققون نجاحاً في الحكم أو كسباً في السياسة، والنظام العربي يتوجس – بطبعه - خيفة من التمكين لأصحاب المشروع الاسلامي الوطني الذي تقوده حماس.. من هنا، عمل الجميع لإجهاض التجربة الإسلامية / الوطنية لحكومة إسماعيل هنية.

لقد آثرت هذه الجهات المتآمرة والمتهمة وطنياً أن تسقط شعبنا في الوحل، ليقتل بعضنا بعضاً، وتتمرغ صورتنا الوضيئة في طين لازب، يُذهب إشراقة المشهد الفلسطيني وصفائه من حاضنة الوجدان العربي والاسلامي.

نعم لقد أنجزنا وثيقة الوفاق الوطني في يونيو 2006، وعلى هديها حاولنا أن نتحرك نحو شراكة سياسية حقيقة، ولكن الظروف خذلتنا وأعمل كل منّا – للأسف - السيف في ناصية أخيه.

واليوم، وقد تجاوزت محنتنا السنتين، ما زلنا نتحرك على غير هدى، يتربص كلٌّ منّا بالأخر، ألسنتنا حادة في الطعن والسباب بالرغم من توجهاتنا الصادقة على المستوى الرسمي للمصالحة وإنهاء حالة الانقسام، ومراهنة كل منّا على الانتخابات القادمة أن تشفي له الغليل وأن تمنحه تفرداً يفري كبد خصمه العنيد، ويعيد له مجداً لم يحفظ طهارته فيما غبر من السنين.

الشراكة السياسية: قدر ومصير

في الحالة التي تمر بها قضيتنا حيث إن شعبنا يعاني من الاحتلال والحصار ليس أمام فصائل العمل الوطني الفلسطيني إلا الاتفاق والتفاهم في إطار شراكة سياسية تحفظ جميع مكونات الكل الوطني، وتمنحه مساحة للتحرك في الحشد والتعبئة والفعل المقاوم.

إن وجود شعب تحت الاحتلال يستلزم تأكيد شراكة الجميع في وضع الرؤية الاستراتيجية للوطن.. إن كل ما حولنا يشي بحاجتنا إلى تفكيك كل بؤر التوتر ومضخات التصعيد، والسماح بانسياب الجهد الوطني والإسلامي في عملية تكاملية تعاظم من إمكانيات صمودنا في وجه مخططات الأعداء الذين يمكرون بنا الليل والنهار.

إن الشراكة السياسية كمصطلح للتعايش وحل النزاعات الداخلية هو آلية تعاطت معها الكثير من شعوب العالم، التي مزقتها الحروب الطائفية والإثنية والدينية، حيث وجدت في الشراكة السياسية طوق النجاة الذي يحمي من الغرق.. ونحن وإن كنّا في مجتمعنا الفلسطيني أكثر انسجاماً وتجانساً في التركيبة الاجتماعية، إلا أن النبرة الحزبية والفصائلية قد نخرت في عظام شعبنا، واستوطنت نخاعنا الشوكي بشكل يهدد أساسات مشروعنا الوطني، ومستقبليات نسيجنا الاجتماعي وفعلنا المقاوم.

لذلك، ونحن نتحرك في اتجاه المصالحة الوطنية وانهاء حالة الانقسام علينا أن نؤسس لمرتكزات استمرار الوفاق والاتفاق فيما بيننا، وعلى أصحاب الحناجر ومنتحلي صفة الصقور أن يكفوا ألسنتهم عن الاتهامات والتجريح الذي يتجرع شعبنا غثائياته على الفضائيات صبح مساء. على الجميع أن يفهم أننا شعب يحتاج إلى من يمد لنا يد العون الانساني والسياسي والمعنوي، وهذا يستدعي أن نكون صفاً واحداً يخاطبنا الأخرون بالقول: "إنك شعب جئت على قدر"، فينتصر لمظلوميتنا كل حرٍّ في هذا العالم. وعلينا أن نتذكر جميعاً أنه لا يمكن بناء وطن على قاعدة من الخلاف والتحريض والخصومة.

إن الشراكة السياسية تعني إشراك جميع مكونات الشعب السياسية في صنع القرار، بنية الوصول إلى المصلحة العامة وإلى الهدف المشترك، دون استئثار أي طرف من الأطراف بحق الهيمنة أو الفيتو الذي من شأنه أن يُخرج الشراكة من مفهومها الحقيقي إلى مفهوم المحاصصة، مع مراعاة أن تأخذ الأغلبية بنظر الاعتبار وجهة نظر الأقلية (الحزبية) كي لا يصل الأمر إلى الاستبداد من قبل الأكثرية.

أتمنى بعد تجربتنا الدامية، وهوان دموعنا على الناس من شعوب أمتنا، أن نتكيف جميعاً على قبول بعضنا البعض، وأن نعمل بروح أن الوطن هو ساحة التدافع وبذل الجهد، وهو سقف الجميع والملاذ.

 

اخبار ذات صلة