تحت ظلال الأزمة الأوكرانية، هل تنطلق شرارة "انفجار إقليمي" من القدس؟

كتب: عريب الرنتاوي، مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية

في حمأة انشغالاته الكثيفة بالأزمة الأوكرانية، يجد وزير الخارجية الأمريكي متسعاً من الوقت، للقيام بزيارة لإسرائيل وفلسطين، والهدف نزع فتيل انفجار كبير، ترجح مصادر أمنية إسرائيلية وإقليمية حدوثه تزامناً مع حلول شهر رمضان المبارك وأعياد الفصح اليهودية.

هي المهمة الثانية للوزير بلينكن في هذا المضمار مُذ توليه مقاليد منصبه، الأولى في الأسبوع الأخير من أيار/مايو الفائت، وهدفت إلى احتواء ذيول "انتفاضة القدس وسيفها"، كما يقال فلسطينياً في وصف الأحداث التي اندلعت في ساحات المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، والتي تطورت إلى مواجهة عسكرية ساخنة على جبهة قطاع غزة والعمق الإسرائيلي...والثانية، هذه المرة، وبمهمة استباقية، تهدف منع انفجار تبدو واشنطن أقل ما تكون بحاجة إليه، فيما غبار المعارك في أوكرانيا (وما ورائها) لم تهدأ بعد.

مهمة بلينكن تتوج حراكاً إقليمياً ودولياً، يسعى في الوصول إلى النتيجة ذاتها...العاهل الأردني سيكون في رام الله هذا الأسبوع كذلك، وقبلها كان وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد في عمان، للغاية نفسها، وفي شرم الشيخ كان قادة كل من مصر والإمارات وإسرائيلي، يتناولون هذا الملف من ضمن ملفات عدة اشتمل عليها جدول أعمال قمتهم الثلاثية غير المسبوقة، وفي الأثناء، ثمة زيارات واتصالات على أرفع المستويات تجري "خلف الأبواب المغلقة" بين مختلف عواصم المنطقة، لتطويق الموقف والحيلولة دون انفجاره.

الاعتقاد السائد لدى الأوساط الفلسطينية، أن الحكومة الإسرائيلية تعمل على استحداث تغيير – بقوة الأمر الواقع - في الوضعية القانونية والتاريخية للحرم القدسي الشريف، وربما تكون أوساطها اليمينية، تخطط لترسيم التقسيم الزماني والمكاني للمسجد، مُستغلة انشغال العالم، بتطورات الحرب في أوكرانيا، والتوتر الأشد في العلاقات بين روسيا والغرب...وثمة معلومات يجري تداولها بأن إسرائيل أعدت خططاً لتمكين المتدينين "الحريديم" من دخول ساحات المسجد الأقصى بأعداد كبيرة، وأداء الصلوات الدينية فيها، وهو أمر بات يحدث بصورة متكررة في الآونة الأخيرة.

لكن الجديد والخطير هذه المرة، أن هذه "الصلوات" تتزامن مع احتشاد المصلين المسلمين، الذين يؤمون المسجد بكثافة طيلة شهر رمضان، وبالأخص في أيام الجمع والعشر الأواخر، الأمر الذي سيفضي حتماً إلى وقوع مواجهات واشتباكات، قد تأخذ طابعاً عنيفاً، وقد تكون لها تداعيات على الوضع في عموم الضفة الغربية والداخل الإسرائيلي، وربما تستدعي تدخلاً من الفصائل الفلسطينية في غزة، كما حدث في أيار/مايو الفائت، وبصورة تنذر بأوخم العواقب.

كما أن التقارير عن نيّة إسرائيل والوكالة اليهودية العالمية استقدام أعداد كبيرة (100-200 ألف) من يهود أوكرانيا (بسبب الحرب) وروسيا (بسبب العقوبات) إلى إسرائيل وتوطين أعداد منهم في "المنطقة ج" من الضفة الغربية، تثير هلعاً متزايداً في الأوساط الفلسطينية، التي تشكو أصلاً انحباس عملية السلام وتآكل حل الدولتين، وغياب أي أفق جدي، لحل نهائي وعادل للقضية الفلسطينية.

التقارير الأمنية الإسرائيلية تحذر منذ عدة أسابيع، من سيناريو "جولة جديدة من التصعيد"، قد تنعكس بعواقب وخيمة على مصير الائتلاف الهش الذي تستند إليه حكومة بينت – لبيد، لكن سيناريو كهذا، على سوئه، ليس الأسوأ من بين "كوابيس" إسرائيل، فالتقارير ذاتها، تتحدث عن خروج الضفة الغربية عن سيطرة السلطة الفلسطينية، التي تجد صعوبة في إحكام قبضتها على مناطق واسعة من الضفة مثل جنين والخليل والعديد من مخيمات اللاجئين.

وخلال السنة التي أعقبت "انتفاضة القدس وسيفها"، أثارت استطلاعات الرأي العام الفلسطيني قلقاً في إسرائيل والدوائر الإقليمية والدولية ذات الصلة، من التآكل المنهجي لمكانة السلطة في أوساط شعبها مقابل صعود شعبية حماس وتزايد نفوذها، وتزداد مخاوف هذه الأطراف جراء معلوماتها الاستخبارية التي تؤكد سعي حماس الدؤوب لـ"تثوير" الضفة، وتصعيد المواجهة مع إسرائيل فيها بدلاً عن قطاع غزة المحاصر والمنهك، وعلى اعتبار أن أي مواجهة مع إسرائيل في الضفة، من شأنها إضعاف مكانة السلطة وإنقاص شعبيتها.

والحقيقة أن ليس السلطة وإسرائيل وحدهما، من يخشى انفجار برميل البارود في القدس وانطلاقاً منها لعموم المناطق الفلسطينية، فالأردن بدوره يخشى "سيناريو الانفجار" بالنظر أولاً؛ لما يمكن أن يلحقه من آثار مدمرة على "الخيار السياسي – التفاوضي" وما قد يفضي إليه من زعزعة مكانة السلطة وقيادة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وثانياً؛ لما يمكن أن يضيفه من مصاعب للوفاء بمقتضيات "الرعاية الهاشمية" للمسجد والمقدسات الإسلامية، المتعثرة أصلاً.
كما تخشى عمان، تداعيات الانفجار في القدس وبقية المناطق الفلسطينية، على الاستقرار الهش في الأردن، والناجم كما تخشى عمان، تداعيات الانفجار في القدس وبقية المناطق الفلسطينية، على الاستقرار الهش في الأردن، والناجم عن تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تعصف بالمستوى الحياتي لملايين الأردنيين، سيما بعد أزمتي كورونا وأوكرانيا، وتحول الغذاء والطاقة، إلى واحدة من مهددات الأمن الوطني، ليس في الأردن وحده، وإنما في عديد الدول والمجتمعات العربية.
وكانت عمان ومدن أردنية أخرى، قد شهدت قبل أيام موجة اعتقالات "احترازية" لأكثر من ثلاثين شخصية من شخصيات المعارضة، تحسباً لاندلاع احتجاجات في الذكرى الحادية عشرة لأحداث الرابع والعشرين من آذار/مارس عام 2011، التي كانت بداية الربيع العربي، في طبعته الأردنية.
مصر بدورها ليست أقل قلقاً من الأردن، وأكثر ما يقلق القاهرة، هو دخول غزة على خط "الانفجار" في القدس، كما حصل من قبل، سيما في ضوء حالة الانسداد في ترجمة التفاهمات التي توصلت إليها الأطراف بعد "انتفاضة القدس وسيفها"، وتحديداً لجهة تخفيف الحصار المضروب على قطاع غزة منذ ازيد من 15 عاماً...وضع كهذا، وارتداداته الأمنية على سيناء، كان مدرجاً على جدول أعمال قمة شرم الشيخ الثلاثية التي جمعت السيسي بكل من بينت وابن زايد.
كما أن صنّاع القرار السياسي في القاهرة، يقرأون بكل القلق، التقارير المتواترة عن تنامي حالة الغضب والنقمة، جراء تفاقم الأحوال المعيشية لعشرات ملايين المصريين من الطبقات الفقيرة والمهمشة، والتي زادتها أزمتا كورونا وأوكرانيا تفاقماً وتدهوراً، ويخشون بدورهم من تطاير شرارات أية مواجهة واسعة في فلسطين، لتصيب الداخل المصري، الذي يبدو مهيئاً أكثر من أي وقت مضى منذ الإطاحة بحكم مرسي وجماعة الإخوان المسلمين، للتعبير عن الشكوى والاحتجاج.
خلاصة القول، أن الغزو الروسي لأوكرانيا والحرب الدائرة فيها للشهر الثاني على التوالي، وغياب أفق لحل سياسي يسكت المدافع والصواريخ، واشتداد نظام العقوبات الصارم على روسيا، قد ألقى بظلال كئيبة وكثيفة على المنطقة العربية برمتها، سيما وأنه جاء بعد سنتين قاسيتين تحت ظلال جائحة كورونا، الأمر الذي ينبئ باحتمال تجدد موجات الاحتجاج والانتفاض في غير دولة عربية، وبصورة تستدعي مفاعيل "مبدأ الدومينو" التي تجلت في عشرية الربيع العربي.
أما في فلسطين، فثمة أسباب إضافية تدفع على ترجيح سيناريو الانفجار، فملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ما زال مفتوحاً على شتى الاحتمالات والسيناريوهات، بما فيها أكثرها سوءاً، والصراع في القدس والمسجد وحولهما، يأخذ أبعاداً "صفرية"، يختلط فيها ما هو ديني بما هو قومي، وإذا كانت تونس في مختتم 2010 أول الربيع العربي، فليس مستبعداً أن تكون فلسطين في 2022، أولى شرارات الانفجار الكبير.

البث المباشر