قائمة الموقع

مقال: أنظمة العرب في هاوية النّقب

2022-03-31T10:05:00+03:00
ابراهيم نصر الله
إبراهيم نصر الله

في يوم الأرض؛ وهو يوم مستمرٌ منذ النكبة، وكانت واحدة من تجلياته الكبرى في الثلاثين من آذار / مارس 1976، نقول: تحت الاحتلال، تحتاج الشعوب إلى مُحرِّرين لا إلى حكّام، وفي فلسطين يبدو الأمر معكوسًا، إذ ابتُليَ الشعب بحكّام منذ أوسلو، وسلطة، بعد أن تمّ التخفّف من كثير من محرِّريه وثواره، ونواة حريّته قبل العودة إلى وهم الحريّة وشبه الوطن وهشاشة الاستقلال.

الشعب الفلسطيني أدرك مبكّرًا حاجته إلى مُحرِّرين، وقد رأى ثورته المعاصرة تضمُر وتتبدّد وتتشتت، وتغدو قيادتها ممتثلة لشروط الضيافة في العواصم البعيدة والقريبة. لذا، نهض هذا الشعب بسرعة، جابراً العثرات المتتالية لثورته، باحتضانه لقيم تلك الثورة النبيلة التي غذّت انطلاقتها، وأبدع انتفاضته الأولى بعبقرية تستعيد ثورته الكبرى عام 1936 وتتجاوزها.

الانتفاضة الأولى كانت العمل الشعبيّ الأكبر لترميم هشاشة الثورة (المسلحة) وشتاتها، لا على المستوى المكانيّ وحسب، بل على المستوى المعنويّ، فقبل أن توقّع قيادة الثورة اتفاقية أوسلو، كانت قد شرعنتْ وجود الاحتلال بلقاء سري هنا، ولقاء سري هناك، وبخطاب متعاظم لا يَمتُّ إلى الحرية والتحرير بصِلةٍ، وبشهوتها لأن تكون نظامًا.

كل تلك اللقاءات كانت هرولة مسعورة لبلوغ حافة هاوية «غزة- أريحا أولا».

لم يُسمح لهذا الشعب، من قبل قادة ثورته النّافذين، أن يؤسس بديلا ثوريًّا حقيقيًّا، ويختار مُحرِّريه بديلا عن حكامه الذين تواصل حكم بعضهم سنوات طوال فاقت عدد سنوات حكّام الأحكام العرفية في مشرق العالم العربي ومغربه. والسلطة، التي أصبحت سلطة حتى قبل أن تطأ أقدامها وحل سراب العودة عبر أوسلو، كانت قد اتخذت قرارتها الواضحة، مثل أيّ نظام عربي مستبد، لا مكان هنا، على أرض فلسطين للمُحرِّرين، فقد أتى زمن الحكّام.

كلنا نعرف حجم القمع الذي مورس ضد من اعترضوا، وكيف بدأ زمن الاعتقال والإهانة والتهميش للبشر، ثم عصر شراء الضمائر بالامتيازات، وصولا إلى عصر رهن البشر للرواتب المرهونة للقروض، ثم بالصمت، المباشر وغير المباشر، عن قضية الأسرى المُحرِّرين، قادة ومقاتلين؛ ولن نبالغ إذا قلنا إن هؤلاء الحكّام غير معنيين بتحرير أي «قائد مُحرِّر» من سجون العنصرية الجديدة، إذ يبدو بقاء هؤلاء خلف القضبان مصلحة لهؤلاء الحكام، بعد أن تآكلتْ كلمة «التحرير»، ولم يبق منها إلا «حرير»، الذي -للمفارقة- يحتاج إلى قوة كبيرة للتشبّث به لفرط نعومته!

هناك واقع عربي وعالمي قاس ومتكالب على فلسطين وقضيتها، لا نستطيع أن ننكر هذا، لكن ما هو أخطر منه هو تجميد الزّمن الفلسطيني، وتحويله إلى محطة انتظار، في حين أن الزّمن، كما أثبتت اتفاقية أوسلو نفسها وما تلاها، هو المساحة الأوسع التي تستطيع الصهيونية التحرك فيها بحريّة في ظلِّ وجود ظلِّ السلطة، لا أكثر، تحت مظلّة التنسيق الأمني الذي يُمكِّن جنود الجيش الصهيوني من الوصول إلى بلدة «يَعْبَد» أمس واعتقال من يريدون من القريبين للشهيد ضياء حمارشة، والوصول قبل شهرين إلى قلب «نابلس»، بملابسهم العسكرية عبر نقاط الأمن وحواجزه، وتصفية ثلاثة من المقاتلين الخارجين على الإذعان، والعودة دون أن يصاب هؤلاء الجنود بأي أذى، أو كما قال نزار قباني ذات يوم: حتى كلاب الحيّ لم تَنبحْ

كل هذا الحديث عن هاوية أوسلو، للوصول إلى الحديث عن «هاوية النقب» التي هرول إليها سماسرة العرب للّحاق بقاعها مستخدمين البساط الأحمر حتى حافتها، والدرج الكهربائي إلى قاعها، ذلك الذي فرَشَتْه وأنشأته اتفاقية أوسلو وملحقاتها من حبر ومُحبِّرين.

في زمن ليس فيه غير الحكَّام، تتعرّى الملاعب لصولات وجولات الحُكّام الآخرين، أعدقاء، وأعداء، وما بعد الأعداء، وقد باتوا يتناسلون ويتكاثرون بوفرة بلقاح عنصريّ صهيوني، ودون رادع، في زمن الأنظمة اللقيطة التي لا يستطيع المرء أن يفسر وهْمَ العظمة الذي تتمتع به، وهي ليست أكثر من أكوام قش يجلس فوقها رجال جُوْف لم يقرؤوا التاريخ، ولم يدركوا بعد معنى الحرية، ولم يتذوقوا غير طعم الاستقلال الذي وصلهم مُعلَّباً، ولم يدفعوا ثمنه، هم الذين لا يكترثون بمصائر شعوبهم وثروات هذه الشعوب، ويتصرّفون الآن مثل كبار الغزاة الفاتحين!

علمنا التاريخ دائمًا أن القوة العظمى تكمن في معنى وجود الأحرار المُحرِّرين، هؤلاء الذين غيروا مصائر شعوبهم، وحفروا القبور للقوى العظمى، من مشارق الأرض إلى مغاربها، هؤلاء الذين بدَوا لكثيرين ذات يوم أنهم شكل من أشكال العبث: الكفّ الذي يلاطم المخرز. لكن الرائيين كانوا يدركون أنهم القطرات التي تشكل الطوفان، والشمعة التي تبدّد الليل مهما اشتدّت حلكته.

يحزنُ المرء لمصائر أوطان عربية يتمّ تحويلها إلى مصدّات للعواصف، لحماية أنظمة بلا قوام وعروش بلا أرجل، أوطان أُنهِكتْ بالقمع وأشكاله المتعددة، وبات المرء فيها أشبه بشخصية ذلك الإنسان المُستَلب في الفيلم العبقري «ترومان شو» حيث السّماء والأفق مصنوعان من بلاستيك أزرق، والبيوت دُمى، والبشر ممثلون متفرّجون بلا نصوص، والوطن كله مسرح لمتفرج واحد وبطانته، في كابوسِ تلفزيون الواقع العربي، الذي يُفرَض على الجميع فيه أن يقبلوا الانتهاك والسحق والاغتصاب المعنوي والمادي، لكي يُسمح لهم بمواصلة العيش، ولا نقول الحياة.

في عالم كهذا، لن نستغرب انهماك وانشغال الصهاينة، ومن يحمونهم ويحالفونهم، في البحث عن حكّام جدد لفلسطين، يمهّدون المستقبل لموات أكبر وتنسيق أمني أعمق وإذلال أشدّ واستباحة تلتهم المستقبل الفلسطيني، في عالم كهذا لا نستغرب كيف لا يُسمح للفلسطيني اليوم باختيار قياداته.

وبعـــد:

قالت أمّهاتنا، وما زلنَ يقلنَ: لا يأتي من الغربْ.. ما يسرُّ القلب، ونضيف لقولهن: ولا يأتي من الشّرقْ.. ما ينصُر الحقْ.

لا يحتاج الشعب الفلسطيني وأحراره إلى دعوة لاسترداد الأنفاس، فالشعب الفلسطيني لم يفقد أنفاسه يومًا، والأمر الذي لا يستطيع المرء أن يشكّ فيه أبدًا، هو أن القيامة الفلسطينية قادمة، وقد علَّمتنا فلسطين أنها تتقن بعبقرية فذة اختيار لحظة انفجارها.

اخبار ذات صلة
فِي حُبِّ الشَّهِيدْ
2018-04-21T06:25:08+03:00