مصابو الأقصى الذين تجاوز عددهم 150 مصاباً لا يزالون يحملون في قلوبهم اليقين، واليقين يجره الثبات إلى ما لا نهاية، وكأنهم وقعوا عقداً مع الأقصى، عقد عشق أبدي يحركهم لا إراديا نحوه بذات الثبات، سواء كانت الأرض هادئة أم تموج أسفل أقدامهم بفعل بساطير الاحتلال التي تسير خلفهم، أو قنابل الغاز التي تلوث الهواء فيفقدون وعيهم، أو الرصاص الحي الذي يأكل عيناً أو طرفاً من أطرافهم أو أي جزء من أجسادهم.
بعضهم جاء من المناطق المجاورة للأقصى، وآخرون من دول عربية، مثل المسن السوداني حسين زكريا البالغ من العمر 59 عاما، الذي أفاق من غيبوبته بالأمس جراء إصابته برصاصة من جندي هشمت جمجمته.
يقول جريح الأقصى وهو يرقد في المستشفى بين الحياة والموت: "أنا أصلي منذ سنوات بالأقصى، آتي إلى هنا للاعتكاف كل عام". كان زكريا يأمل أن يكمل اعتكافه حتى نهاية شهر رمضان لكن الإصابة أرقدته في حالة خطرة حتى الآن في مستشفى المقاصد.
زكريا أصيب برصاصة معدنية مغلفة بالمطاط في رأسه، فنزف دمه على أرضية المسجد، قبل نقله إلى غرفة العناية المركزة في مشفى المقاصد"، وهو يقيم في القدس منذ ثماني سنوات، ولم يعرف حتى الآن ما هي ظروف إقامته.
آخرون يقيمون في القدس، ولكن الحالة الصحية قد تمنعهم من القدوم، لكن ذلك لم يمنع الحاج الستيني الكفيف أبو الحسن الذي يعرفه كل المصلين والعاملين في الأقصى.
"وجب علينا الاعتكاف من بداية رمضان، وجودنا تحدٍ للاحتلال ومحافظة على زخم وجود الناس وممن لا يستطيعون العودة إلى بيوتهم أو قد أتوا من مناطق بعيدة، ووجودي هنا يجبرني على الحفاظ على قدسية المسجد وعروبته"، بهذه الروح يتحدث أبو الحسن.
أما محمد قراعين (80عاما) من بلدة سلوان، أكبر مصابي اقتحام المسجد الأقصى في الجمعة الثانية من شهر رمضان، يروي من سرير الشفاء شهادته على الاقتحام وإصابته برصاصة مطاطية في وجهه: "كنت أصلي الضحى حينما هجم الجيش فجأة علينا في باحات المسجد ولم يفرق بين كبير وصغير".
ويستأنف الحاج قراعين حديثه وقد بدا وجهه منتفخا من كثرة الكدمات: "هجم الجيش على الكبار والصغار والنساء، كسروا الأبواب، والنوافذ، وربطوا المرابطين الشباب داخل الباحات وجروهم للاعتقال دون أي رحمة".
"حاولت الخروج من البوابة" يضيف الحاج الجريح، "وما إن وصلت إلى البوابة حتى هجم الجنود عليَ وضربوني بالهراوات على وجهي ورأسي حتى أغمي عليَ ونقلوني إلى المستشفى، ولا زالت صرخات الشباب المرابطين ترن في أذني: "الحاج قراعين مصاب، نريد إسعاف!".
وفي زاوية أخرى من باحات المستشفى التي امتلأت بالمصابين كان محمد أبو رموز يصف حالة ابنه نبيل المصاب منذ الجمعة الأولى "ابني صاحي ومش صاحي، وبخربش بالحكي". كان نصيب نبيل رصاصة في رأسه أثناء تواجده في المسجد الأقصى الجمعة الماضية، حاول الشباب إسعافه لكن قوات الاحتلال منعتهم.
بقي الشاب العشريني ينزف ساعة ونصف في الداخل والشباب مستمرون في محاولاتهم لإخراجه ونقله، لكنهم في كل مرة يتعرضون للضرب أو إطلاق الرصاص وقنابل الغاز.
بعد محاولات عديدة، تمكن الشبان من نقل نبيل إلى المستشفى وحول إلى غرفة العمليات فوراً وخضع لجراحة دقيقة في رأسه، لكن وضعه غير مستقر حتى اللحظة ولا يستطيع الكلام أو التعبير بشكل واضح.
أما الشاب المقدسي أحمد فواز أبو خالد التميمي (33عاما) الذي فقد عينه اليسرى يقول: "كنت في المصلى القبلي لأداء صلاة فجر الجمعة الثانية من رمضان، وعندما اقتحمت القوات الإسرائيلية المصلى بالقنابل والرصاص المطاطي، بدأ الجميع بالخروج".
تأخر أحمد في الخروج لأنه شاهد كفيفاً ملقى على الأرض، فأسرع لمساعدته، لكنه سقط إلى جانبه مصاباً برصاصة مطاطية في عينه.
نُقل أحمد إلى مستشفى المقاصد، ثم إلى مستشفى عين كارم لصعوبة حالته، ليخبروه هناك أنه فقد عينه للأبد.
تلك القصص كانت مثالا لعشاق راهنوا على يقينهم رغم الخذلان الذي يتجرعونه حتى من الأقربين، فقد رصد الهلال الأحمر حتى اللحظة 177 مصاباً منذ بداية الأحداث في الأقصى ومعظم الإصابات كانت نتيجة الضرب والغاز والأعيرة المطاطية وسط مضايقات وعرقلة الاحتلال للطواقم الطبية، ولكن ذلك لم يضرهم في شيء، فيعودون وكأن شيئاً لم يكن، وفاء للعقد الذي وقعوه مع الأقصى والصلاة فيه حتى تحت زخات الرصاص.