النظرة الأولى نحو الشهيد الطفل غيث رفيق يامين تكشف كيف يكبر أبناؤنا بهذه السرعة، لن تجد على وجع الأرض يافعاً لم يكمل السادسة عشرة من عمره كتب وصية على صفحته في فيسبوك!
وصية تشبه غيث، سطورها تعكس طفولة لا زالت يانعة في قلب الصغير، الذي يعرف أنه يقف على مفترق بسيط بين الطفولة والرجولة.. كان عليه أن يختار.. أما قلبه فيحمل ألف وصية للأطفال.
يخاف غيث من البرد، لذلك أوصى ألا يوضع في الثلاجة. ويخاف من الوحدة، فطلب من رفاقه أن يظلوا حوله بعد دفنه، وألا يتركوه ويغادروا سريعاً، كأي طفل تخطر في باله وحدة القبر وعتمته ألف مرة قبل أن يختاره الموت رفيق طريق.
وفي كل الأحوال لم يختر غيث الموت، أطفالنا كلهم لم يختاروا الموت، وإنما فرضه الاحتلال. التاريخ يعلم جيدا أن كل الطرق المؤدية إلى الأوطان تمر بعتبة الموت، الذي بدوره يمر بعتبة المخيمات والمدن التي لا تنام ليلا بسبب اقتحام الدبابات وصوت بساطير العساكر، ثم لا المدن ولا القرى ولا المخيمات قادرة على النسيان، من ينسى حقه في الحياة؟!
استهداف الأطفال كما في كل عام كان متعمداً مدروساً، بل زادت وحشيته، كما يقول غسان دغلس، مسؤول ملف مسؤول ملف الاستيطان في شمال الضفة، واصفاً للرسالة كيف أطلق المستوطنون رصاصهم عشوائيا على الأطفال الواقفين.. وكيف حطموا المركبات وهم يقتحمون المدينة وحينما بدأ الصبية بالرد، مارس القناصون هوايتهم، فسقط غيث!
"رصاصة متفجرة استهدفت رأس طفل واقف على طرف الشارع فتفجر، يعرف كل من يراه حتى من بعيد أنه طفل"، يضيف دغلس.
" لكن، هذا ديدن الاحتلال"، يستدرك دغلس، مستشهداً بسجلات الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال في فلسطين "لقد ارتقى 78 طفلاً شهيداً خلال عام 2021، بواقع 17 طفلاً في الضفة الغربية و61 طفلاً في قطاع غزة.
ومنذ بداية هذا العام، استشهد 50 فلسطينيّا من تاريخ 1 يناير/كانون الثاني الماضي، وحتى تاريخ 9 أيار/مايو الجاري، منهم عشرون شهيداً في جنين وحدها، ومعظمهم قضوا في عمليات إعدام متعمدة.
يحب غيث اللعب، وهو يعلم أنه سيغادر دون أن يأخذ حصته وحقه في اللهو، ككل أطفال فلسطين، فيتمنى أن يدفن في قبر مجاور لقبور أطفال مثله، يستعيد معهم كل تلك الألعاب التي لم يسمح له الاحتلال بأن يمارسها في أزقة الحارات، والبيوت، وخلف أسوار المدارس، ربما سيتسع لها قبر ورفاق كثر، سبقوه واستقبلوه اليوم، في عالم طفولي أكثر أمناً.
كان من المفترض أن يبحث غيث عن مخيم صيفي ليقضي فيه إجازته الصيفية مع رفاقه، أو ملابس جديدة تتناسب مع الإسورة التي يحبها، والتي ما زالت راقدة تحت أنقاض وسادة سرير الشهيد الصغير.
ما حدث تلك الليلة أفقد غيث يامن حقه في حياة طبيعية، مثله مثل كل طفل فلسطيني. كان على الاحتلال أن يزيحه أثناء اقتحام مدينة نابلس ليؤمّن طريق مستوطنيه كي يقيموا صلاة تلمودية مختلقة عند "قبر يوسف"، شرقي نابلس، بعد منتصف الليل، وهكذا أطلق عليه الاحتلال رصاصة في مقتل، كان يعرف أنها ستأتي يوماً، هذا غير إصابة خمسة عشر شابا آخرين.
رفاق الشهيد، رفاق الصف الحزين، جلسوا في سطر واحد على مقاعد قديمة أمام باب المستشفى حتى يتأكدوا مما سمعوه صباحاً، ثم ليكونوا أول من يتلقف جثمان الرفيق بينما استنكر أساتذته: "طفل مثل غيث، ما الذي رآه من الدنيا حتى يكتب وصية مثل تلك الوصية؟!"
ثم غادر الجميع، ما عدا الرفاق، ظلوا حسب وصية غيث، يقرأون الفاتحة على قبر رفيقهم، ويحاولون ما استطاعوا أن ينفذوا وصية الطفل.
وصية كاتبها كان في طريقه إلى البيت ليكمل دراسته ويغادر صباحاً لقاعة الامتحان.
لكن الطريق تغيرت، غيرها جندي مدرب جيداً على قنص الطفولة، فضيّق الحياة على غيث حتى قتله، فكان القبر أكثر اتساعاً لطفولته.