أثيرت في الفترة الماضية قصة "نقش سلوان"، وذلك إثر زيارة رئيس الاحتلال (الإسرائيلي) هرتسوغ إلى تركيا ولقائه الرئيس التركي أردوغان، وقد انتشرت شائعة عن نية تركيا إهداء هذا النقش إلى السلطات (الإسرائيلية) التي تطلق عليه اسم "نقش حزقيا"، إلا أن هذا الأمر لاقى نفيا من قبل السلطات التركية التي صرحت بعدم صحة هذه الشائعات، وعدم طرح هذا الأمر للنقاش أصلا داخل الأروقة التركية، رغم مطالبة السلطات (الإسرائيلية) بالنقش مرارا وتكرارا.
لا بد لنا في البداية من الإشارة إلى أننا لا نتحدث عن مجرد نقش، بل الحديث يدور عن نقش يعتبر حجر زاوية والاكتشاف الأهم والمرجع الرئيس في السردية الصهيونية حول القدس . كما يعتبر نقشا مؤرخا للكتابة من المائة الثامنة قبل الميلاد بحسب التأريخ الدارج الذي أعطي له على يد اللاهوتيين وباحثين يهود عدة.
بل إنه أصبح يعتبر مصدرا ومرجعا أساسا تقاس عليه النقوش والكتابات التي ظهرت بعده وتؤرخ بحسبه، أضف إلى ذلك كونهم اعتمدوا في تاريخ قناة الماء (قناة سلوان) ونسج الرواية حولها على هذا النقش، وبالتالي فإن قيمته تتعدى القيمة المجردة للنقش وتمثل رواية متكاملة تسعى المؤسسة (الإسرائيلية) إلى فرضها على أرض الواقع.
من هذا المنطلق وكونه ليس مجرد نقش، بل هو حجر زاوية كما ذكرنا، فمطالبة المؤسسة (الإسرائيلية) بالاستحواذ عليه تتعدى كونها مجرد المطالبة بحجر أو نقش مجرد، بل تتضمن بين جنباتها مساعي لإقرار السردية الصهيو-توراتية حول تاريخ القدس ، فهو بحسبهم يعتبر إثبات الحق اليهودي في المدينة المقدسة، وبالتالي فلو تم تسليمه من قبل السلطات التركية إلى المؤسسة (الإسرائيلية) فإن ذلك قد يُفَسر على أنه إقرار رسمي من قبل السيادة التركية بالسردية والمروية الصهيونية حول القدس وأحقيتهم بها.
من خلال اطلاعي على ما يجري في المدينة المقدسة من إحلال للتاريخ، ومتابعة مساعي المؤسسة (الإسرائيلية) ليس فقط لفرض الهيمنة الفعلية على المدينة, بل أيضا بسط الهيمنة على ذاكرة المكان وتصوير تاريخها وفق ما يخدم أجندتها، ومتابعتي للدراسات الصادرة بالعبرية من كبار الباحثين (الإسرائيليين) والحيز الكبير الذي أخذته هذه القضية في الإعلام والمجتمع اليهودي، ليس فقط على إثر الزيارة المذكورة ولكن أيضا من سنوات خلت، ارتأيت كتابة هذه المقالة.
وأستعرض فيها السردية المتعلقة بالنقش والقناة من خلال المصادر العبرية المعتبرة، علما أن هناك العديد من الباحثين على مستوى العالم الذين سلطوا الضوء على الإشكاليات العديدة المتعلقة بهذا النقش، ومع ذلك تبقى هذه السردية هي المهيمنة على الساحة (الإسرائيلية)، ولعل انهيارها يعني انهيار ركيزة من السردية التاريخية التي ينسجونها حول المدينة المقدسة وبالتالي تهاوي كل السردية.
السردية الصهيو-توراتية حول النقش والنفق
تذكر العديد من المصادر والدراسات (الإسرائيلية) الحديثة حول قصة سلوان أنه قبيل الحصار المحتمل للمدينة على يد الآشوريين بقيادة سنحاريب في المائة الثامنة قبل الميلاد قام الملك حزقيا بحفر قناة (نفق) بديلة لينقل من خلالها المياه من عين "جيحون" ويمنع خروجها من القنوات الخارجية التي تزود البساتين خارج الأسوار بالماء، ويوجهها إلى بركة سلوان (أم الدرج)، وبذلك يمنع الجنود الآشوريين من الاستفادة من الماء أثناء حصار المدينة.
يُذكر أنه تم اكتشاف النفق سنة 1838 على يد إدوارد روبنسون أيّام حكم الدولة العثمانية للقدس -علما أن النفق كان معروفا لأهل القدس وسلوان إلا أن هذا التاريخ يتبع إلى استكشاف النفق على يد المستكشفين الغربيين- وبعد 42 سنة (عام 1880) عثر على النقش داخل النفق على يد فتى يهودي كان يسبح ببركة سلوان، وقد اعتبر هذا النقش على أنه نقش لتخليد لحظة التقاء مجموعتي الحفارين في وسط النفق بعد أن عملوا باتجاهين متقابلين بسبب ضيق الوقت. وكان النقش بحسبهم محفورا على جدار النفق الأملس مباشرة على بُعد أمتار من المدخل.
وبحسب ما ينقل عن هرمان جوته (1891) من الجمعية الألمانية لدراسة فلسطين وتنسب إليه دراسة النقش، يقول إن النقش اقتلع عام 1890 من الجدار على يد فلاحين بعد أن أمرهم أحد الوجهاء الفلسطينيين (مجهول) بذلك، وقد تكسر الحجر إلى 6 أو 7 قطع عند محاولة سرقته. وبعد أن تم إخفاء النقش الأصلي وصلت الأخبار إلى متصرف القدس العثماني الذي أمر بالبحث عنه، ليتم اكتشاف مكانه بعد جهد وعثر أيضا على نقش مزيف مطابق له بجانبه.
أما القطعة التي عُرّفت بأنها أصلية فقد نقلت إلى إسطنبول وما زالت بالمتحف حتى يومنا هذا؛ مضيفا أنه من المؤسف للغاية أن هذا الأثر القديم قد تم تدميره في مثل هذا الحادث الفاشل. وتم الآن إعطاء النسخ التي قمت بإنشائها في عام 1881 قيمة كبرى لأنها فقط تقدم صورة موثوقة وكاملة للنقش قبل هدمه.
الاستنساخ الذي أعده هرمان جوته للنقش (1881)
هناك العديد من الدراسات التي تناولت موضوع النقش، بل أيضا عرضت لنا قصة اكتشافه بتفاصيل مغايرة والتي من شأنها أن تؤثر جذريا في قراءة النقش وفهم الهدف من حفره، أو إعطائه تاريخا، الأمر الذي يستوجب منا استعراضه في دراسة مفصلة مشفعة بالمصادر الأمر الذي يتعدى الهدف من هذا المقال، مع ذلك هناك أسئلة بديهية عدة ما زالت الأجوبة حولها مبهمة:
من كتب النص، ومتى كتب، وفي أي عهد؟!
أليس حريا بنقش بهذا الحجم أن يكون ظاهرا للمستكشفين الذين وثقوا النفق وزاروه مرارا وتكرارا قبل اكتشاف النفق وتقديم شروحات وتفصيل حوله، مع ذلك لم يتم العثور عليه إلا بعد 42 سنة!
لو افترضنا أن التفسير الذي يحاول بعض الباحثين تسويقه على أن النقش جاء لتخليد لحظة التقاء مجموعات الحفارين:
أليس من المفترض أن ينقش في مكان الالتقاء أو أن يوضع في مدخل النفق أو عند المخرج وليس على بُعد أمتار من المدخل؟ وهل كان الالتقاء على بعد أمتار من المدخل؟!
هل حقا كانت هناك حاجة لبناء القناة (النفق المائي) التي تحتاج إلى جهد عظيم في ظل الحصار المحتمل على المدينة بحسب الرواية الصهيونية؟!
هل هناك شواهد أثرية قطعية تؤكد وجود الملك حزقيا في القدس في المائة الثامنة قبل الميلاد، وهل كانت القدس مدينة يهودية في تلك الفترة (طبعا غير الرواية الصهيو-توراتية)؟!
وللإجابة عن هذه التساؤلات نقول:
أولاً: الصخرة التي نقشت عليها الكتابة ملساء وواسعة ولكنها فارغة من الجوانب (بحسب الاستنساخ)، أي أن النقش والكتابة كاملة غير منقوصة، مع ذلك لا يوجد أي ذكر لحصار المدينة في النقش، ولم يذكر تاريخ الحفر، أو اسم الحاكم الذي أمر بحفر القناة، أيضا لم تورد الصيغة المتبعة من مدح الحاكم أو الملك كعادة المشاريع الكبرى.
ثانيا: النص المستخرج من النقش هو لهرمان جوته (1891) وهو من مؤسسي الجمعية الألمانية لدراسة فلسطين، وقد أشار بشهادته التي أوردناها أن النقش الأصلي تحطم، وأن النص الذي وصل إلينا يعتمد على استنساخه للنقش الأصلي والذي أصبح المصدر لدراسة النص، الأمر الذي يثير الريبة حول أصلية النقش أو كون النقش أصليا، كوننا نتلقاه من مصدر واحد والذي يعتبر من طلائع المستشرقين واللاهوتيين الذين أسسوا للسردية الصهيو-توراتية في القدس ومن أوائل من ربطوا النقش بالقصة التوراتية علما أنه لا يوجد شيء قطعي أو إثبات يستند إليه، فهذه السردية مبنية على تخمينات وظنون لمستشرقين من أمثال جوته وغيره من الذين جاؤوا أصلا من أجل إثبات الرواية التوراتية وتعزيزها من خلال الآثار الملموسة والذين يشك بحياديتهم.
هذه التخمينات أصبحت أساس السردية الصهيو-توراتية بل أصبحت مرجعا "للباحثين" الساعين إلى فرض هذه الرواية على أرض الواقع دون حجة أو دليل معتمدين بذلك على تراكم الظنون وإعمال طلائع المستشرقين الذين لم يقوموا ببحث تاريخ فلسطين والقدس بقدر ما سعوا إلى فرض روايتهم وتحقيقها على أرض المدينة المقدسة مقوضين بذلك تاريخ المدينة.
ثالثا: في وقت حفر النفق بحسب الرواية التوراتية (المائة الثامنة قبل الميلاد) كان هناك نفق مركزي قريب مجاور له يصل إلى العين (يطلق عليه منظومة بير وارن)، وهو أقدم منه بكثير واستمر استعماله لقرون عديدة، فما الحاجة لهذا النفق وقد كان بالإمكان الاكتفاء بإغلاق القنوات الخارجة خارج الاسوار والوصول إلى العين بأمان، أو حفر خزانات قريبة من العين لتجميع فائض الماء وليس حفر نفق قرابة 500 متر في ظل الظرف والخطر المحدق بالمدينة!
رابعا: القصة التوراتية تذكر استعمال مجموعات كبيرة من المتطوعين لحفر النفق، ومن خلال النظر في الدراسات التي استعرضت الجانب المهني والتقني يظهر أن الحفر تم على يد مجموعة صغيرة متمرسة من الخبراء والمهنيين، وأن الأمر تم بدقة متناهية وذلك يخالف السردية الصهيو-توراتية.
خامسا: على ما يبدو أن هذه التفريعة بنيت لغرض تعزيز المدينة بالمياه والاستفادة أكثر من مخزون المياه، أي أنها لم تكن مصدرا رئيسيا للماء، وجاءت لتخدم تمدد البلدة.
سادسا: يرجح أهل الاختصاص -بناء على أشكال الخط- أن النقش كتب بالكنعانية الأصلية، وبالتالي فإن النقش لو كان أصليا فهو نقش كنعاني يتلاءم مع تاريخ المدينة.
سابعا: لو استبعدنا موضوع النقش، فإننا نتحدث عن منظومة وقنوات مياه متعارف عليها من الفترات القديمة وشبيهة بتلك التي وجدت في المدن الكنعانية – الفلسطينية (ممالك المدن)، وبالتالي فالراجح أن الحديث يدور عن قناة كنعانية أصلية. ولو أخذنا النقش المجرد فهو يتحدث عن أعمال شق عادي لقناة ولا يحمل أي دلالات سياسية.
ثامنا: مثل هذه الأحداث من حملات وانتصارات الملوك غالبا ما يتم تخليدها في النقوش والسجلات الملكية. والحملة منسوبة إلى الملك الآشوري سنحاريب إلا أنه لا يوجد ذكر لحصاره للقدس ومقاتلة "الدولة اليهودية"، لا في النقوش التي تخلد حملاته على البلاد ولا في غيرها، والمصدر الوحيد هو السردية الصهيو-توراتية، فهل يعقل أنه غفل عن تخليد حدثٍ بهذا الحجم، علما أن هناك توثيقا لحملته على المدينة المجاورة "لخيش"!
ومختصر القول: إن النقش يتحدث عن مشروع حفر نفق لا علاقة له بالملك التوراتي "حزقيا" أو غيره من ملوك الرواية التوراتية، وأيضا السردية الصهيو-توراتية حول مدينة القدس هي محل شك كبير ولا إثبات أثري لها. ولا يمكن الجزم بتاريخ الحفر، أو سبب الحفر، ولكن المؤكد أن القناة لم تحفر بسبب حصار المدينة، أو أنها كانت إحدى الخطط العبقرية لإمداد المدينة بمصدر ماء في وقت الحصار، بل هو تفريعة أو تعزيز لنفق سلوان المركزي القديم الذي يطلقون عليه اسم "بير وارن"، ويهدف إلى الاستفادة من مياه المدينة وربما إتاحتها بصورة أسهل لسكان البلدة، فنحن نتحدث عن نفق كنعاني أصيل كغيره من الأنفاق والقنوات المتعارف عليها بالمدن الكنعانية – الفلسطينية القديمة التي خدمت سكان "ممالك المدن" ويسرت وصولهم لمصادر المياه، أما محاولة نسبته إلى الملك حزقيا فليس إلا من باب تأويل آثار القدس وفلسطين ولي أعناق النصوص وتفسيراتها لتخدم الرواية الصهيو-توراتية.
في النهاية، فإن نقش سلوان ليس إلا مثالا واحدا من أمثلة عديدة تشير إلى تاريخ القدس الذي ضيعناه؛ فرغم وجوده في دولة ذات أصول إسلامية عريقة فإنه -وللأسف- لم يتم فحصه ودراسته كما يجب من قبل باحثين عرب ومسلمين مقارنة بالباحثين الغربيين واليهود، ولعل الكثيرين من المسلمين ومحبي المدينة المقدسة لم يعرفوا عنه وعن غيره شيئا لولا الزوبعة الإعلامية التي حصلت، حاله كحال تاريخ القدس القديم الذي يجهله الكثير منا.
وللأسف أصبحنا نتعامل مع هذا التاريخ العريق لأقدس المدن من خلال سياسة رد الفعل وما يتناقله الإعلام، ولا نهتم به إلا على هامش تسليط الضوء عليه إعلاميا، في حين تتعرض المدينة المقدسة لأعنف وأكبر حملة تهويد.
ولعلنا حين نريد أن نبحث أو نستكشف تاريخ المدينة نقع في مصيدة " المعلومات" التي نتلقاها من المستعمر أو المستشرق أو اللاهوتي لنجد أنفسنا قاصرين في بحث تاريخ المدينة والتحقق منه. ولعل هذه مناسبة نؤكد من خلالها على ضرورة العمل والبحث الجاد من أجل المدينة المقدسة وحفظ تاريخها وإنقاذ ما تبقى منه.