حسنا، إنه العيد، لا يعني ذلك الكثير من اللحوم فقط، مع أطباق عامرة بالمعكرونة اللذيذة والأرز وأنواع متعددة من الحساء، أو ربما البيتزا والشطائر، ولكن يعني أيضا كمًّا هائلا من الحلوى، في الواقع لو قرَّرنا تسمية أعيادنا بـ "أعياد الحلوى" فلن نكون مخطئين، لفهم الأمر دعنا نطلب منك أن تُقارِن صورة لك اليوم بأخرى قبل ست سنوات أو تسع مثلا، هل تلاحظ زيادة كبيرة في وزنك؟
تؤكِّد دراسات عديدة أن ما نكتسبه من وزن زائد على مدار سنوات يتراكم غالبا خلال فترات الأعياد والعطلات، هكذا ببساطة بعض الكيلوغرامات القليلة كل عام في العيد هي ما يصنع ذلك التضخُّم الكبير في أوزاننا عبر السنوات، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الذي يحدث لنا في الأعياد لنلتهم كل هذا القدر من الطعام؟ فرغم أن بعضنا قد يكون ملتزما بنظام غذائي صحي خلال العام، فإنه لا يُفلح في المواظبة على الأمر خلال فترة الأعياد! (1)، (2)
ليست بهجة العيد.. إنه التوتر
لنبدأ من التوتُّر، تُشير دراسة أُجريت في جامعة كونستانز الألمانية إلى أن الآثار السلبية للضغوط الاجتماعية تنعكس على قدر الطعام الذي نأكله، فكلما ازدادت الضغوط زادت شراهتنا الأكل، بينما يمكن للتجارب الإيجابية -بحسب الدراسة نفسها- أن تُعدِّل من سلوك الأكل، حيث كان المشاركون يميلون لتناول الطعام عند الإجهاد، ورغم عرض الطعام نفسه عليهم حين صاروا أكثر استرخاء، فإن شهيتهم كانت أقل بدرجة ملحوظة. (3)
للوهلة الأولى، يُفترض أن تكون استجابتنا للإجهاد والتوتر بعدم الرغبة في تناول الطعام، بسبب ما يفرزه الدماغ من هرمونات تُقلِّل الشهية، لكن استمرار مستويات الإجهاد والتوتر عند حدٍّ مرتفع لفترات طويلة يؤدي إلى إفراز الكورتيزول (وهو هرمون منشِّط للشهية يخرج من الغدد الكظرية)، ويظل هذا الهرمون مرتفعا ما دام شعورنا بالتوتر مستمرا، وبهذا تستمر رغبتنا في تناول الطعام. (4)
ما يُسمى بالأكل العاطفي هو إذن من أهم أسباب نَهَم العطلات والأعياد، فرغم أنها في الأصل أيام سعيدة، فإنها غالبا ما تجلب قدرا من التوتر والوحدة والملل، فيلجأ أغلبنا إلى الطعام للتغلُّب على هذا الشعور، يرى أخصائي التغذية تيمي جوستافسون أن الأعياد والعطلات لا تكون سعيدة تماما بالنسبة للكثيرين، حيث يجدون أنفسهم مُثقلين بالعديد من المهام والالتزامات الإضافية، فيتمنّون لو استمرت حياتهم اليومية كالمعتاد ليتمكَّنوا من إنجاز كل هذه المهام، لذلك تكثر مصادر التوتر، أضف إلى ذلك عدم ممارسة الرياضة وقلة النوم الذي يحدث بسبب انقطاع برنامجنا اليومي المعتاد، وهكذا يزيد التوتر ومن ثم تزيد الشهية ونكتسب الوزن. (5)
من جانب آخر، تُشير بعض الأبحاث إلى وجود اختلاف بين الجنسين في سلوك التكيُّف مع الضغوط، حيث تزداد احتمالية لجوء النساء إلى الطعام بينما يتجه الرجال إلى الكحول أو التدخين، وبالتالي ترتبط السمنة بالتوتر لدى النساء أكثر من الرجال. (6) يتفاقم تأثير ذلك نظرا لأن ما تُسمى بالأطعمة المريحة، التي تلعب دورا فعالا في تخفيف شعورنا بالتوتر، هي تلك الأطعمة المليئة بالدهون والسكر والملح، ما يعني أنها تتسبَّب في اكتساب قدر أكبر من الوزن. (7)
مع المشاركة نأكل أكثر
لكن التوتر وحده لا يُفسِّر نهم الأعياد، في تلك النقطة يُشير ديفيد كاتز، مؤلف كتاب "الطريقة التي نأكل بها" (The Way to Eat) ورئيس مركز أبحاث الوقاية في كلية الطب بجامعة ييل، إلى ثلاثة أسباب مُحتمَلة لذلك النهم الشديد الذي يُصيبنا في الأعياد: أولها أن الجميع يفعلون ذلك أمامنا، والتساهل في الحميات الغذائية -كما تعرف- يحب الرفقة، وثانيها أنها تُوفِّر الفرصة، فنحن محاطون بالكثير من الأطعمة، والتعرُّض لها يُولِّد التساهل، وأخيرا شعورنا بأن الأعياد استثناء، وأننا سنعوِّض كل هذا في الغد، لكننا لا نفعل، وأنت تعرف ذلك جيدا! (8)
في وجود آخرين يزيد احتمال مضاعفة كميات الطعام الذي تتناوله، ومن المُرجَّح أن يُؤثِّر ذلك في اختياراتنا أيضا، فتختار طعاما مشابها لما يأكلونه، تُشير دراسة من جامعة برمنغهام بالمملكة المتحدة إلى أن الأعراف الاجتماعية المتعلِّقة بتناول الطعام لها تأثير قوي على اختيار نوع الطعام ومقدار ما نأكله، وأن اتباع هذه القواعد والأعراف يجعل مشاركة الطعام مع الآخرين أكثر متعة، ولهذا نميل إلى أن نفعل مثلهم. (9)
كل هذا الطعام أمامنا.. فمَن يقاوم؟
يبدو موسم الأعياد مثل ماراثون؛ الكثير من اللحوم والفطائر والحلويات والكعك والمقرمشات، مائدة مُغرية أمامك باستمرار حتى في غير مواعيد الوجبات، فمَن يصمد أمامها؟ في المقابل، يبدو أن محاولة اتباع نظام غذائي خلال هذا الوقت تزيد الأمر سوءا، فعندما تقل كمية السعرات الحرارية التي تتناولها عن الكمية الطبيعية، سيُرسل دماغك إشارات متواصلة بأن وقت الأكل قد حان، يحدث هذا بينما أنت جالس بالفعل بصحبة أطباق النشويات والحلويات، لذا ستتناولها في النهاية بالتأكيد.
في جميع أنحاء العالم يكون الطعام حاضرا في الاحتفالات، حتى خبراء التغذية يسمحون لمرضاهم بالتساهل في الأعياد حتى لا يشعرون بالعزلة في خضم موجة الاستهلاك المفرط لجميع الأطباق والمشروبات والحلويات. يبدو الأمر في هذه الحالة مثل مكافأة على الالتزام لفترة طويلة سابقة. (10)
من جانب آخر فإن أجواء الأعياد تجعلنا نتوقَّع كميات كبيرة من الطعام، وهذا الارتباط بين الأوقات والروائح والصور يُنشِّط ذاكرتنا، لتبدأ أجسامنا في التوق إلى أطعمة بعينها نعرفها، غالبا ما تكون مليئة بالسكريات والدهون، تماما مثل تجربة عالِم وظائف الأعضاء الروسي إيفان بتروفيتش بافلوف الشهيرة (كان بافلوف يُقدِّم الطعام للكلب مسبوقا بقرع جرس صغير بجانبه، ومع تكرار الأمر لعدة أيام لاحظ أن الكلب بدأ بإفراز اللعاب قبل أن يُقدَّم له الطعام فقط بمجرد سماع صوت الجرس). (11)
تبدو هذه الرغبة سهلة الاستثارة، ويصعب في الوقت نفسه التخلُّص منها، أجسامنا تتوقَّع هذه الأكلات في هذا الوقت وتنتظرها، الحرمان هنا إحدى أكبر المشكلات بالنسبة لمَن يتبعون نظاما غذائيا، فتخطي الوجبات والشعور بالجوع الشديد هو ما يُسبِّب الشراهة، وإحدى طرق الحد من الشراهة هي الابتعاد عن التحفيز في المقام الأول. (12)
التنوع لا يدعك تشبع بسهولة
حسنا، لم تنتهِ أسباب شراهة العيد بعد. ربما تعرف هذا الشعور، عندما تأكل طعاما ما تقل شهيتك له تدريجيا إذا كان هذا هو الطعام الوحيد في طبقك وستشعر بالشبع سريعا، لكن جرِّب أن يكون بجانبه طعام آخر؛ مقبلات أو طبق من السلطة مثلا، ستشعر بالرغبة في تناول الطعام مرة أخرى، وإذا واصلت إضافة أطعمة جديدة ومحفزات للنكهة فستستمر في تناول الطعام. (13)
في دراسة تعود إلى عام 1980 قارن باحثون بقسم علم النفس التجريبي بجامعة أكسفورد سرعة الشعور بالشبع لدى مجموعتين، الأولى تناولت شطائر بحشوة واحدة، بينما تناولت المجموعة الثانية شطائر متنوعة بحشوات مختلفة، لتجد أن المجموعة الثانية تناولت عددا أكبر من الشطائر، وتأخَّرت في إعلان الشعور بالشبع. (14)
حسنا، يبقى مذاق اللقيمات القليلة الأولى من الطعام هو الأفضل دائما، فبعد مضغ الطعام نفسه لبعض الوقت يبدو أنه يفقد نكهته اللذيذة، وتقل رغبتك في تناول المزيد منه، لا علاقة لهذا بما تستوعبه معدتك من طعام، إنه الشبع الحسي (Sensory_specific satiety) وهو يعني أن طعم ورائحة ما تأكله لم يعودا جديدين، فتشعر عندها بالشبع، لكنك تستعيد رغبتك حين تحضر صنفا آخر أو حتى حين تضيف إلى الطعام بهارا جديدا مثلا.
هذا بالضبط ما يُفسِّر أنك تشعر بالشبع في وجبة الغداء، فلا تستطيع تناول لقمة صغيرة أخرى، لكنك بعد ثوانٍ ربما تسأل في شغف: أين الحلوى؟ ما حدث هو أن الحلوى حافز جديد أيقظ شهيتك مرة أخرى. (15)
إذا ثُقب إطار سيارتك.. فلا تثقب الثلاثة الأخرى
إزاء كل هذه الأسباب، ما الذي يمكننا فعله للحدّ من أضرار هذه الرغبة في تناول المزيد من الطعام في الأعياد؟ يقول كاتز إنه بغض النظر عن مدى مهارتك في القيادة مثلا، فإنك إذا كنت تقود لمسافة طويلة فسيحدث أن يُثقَب أحد إطارات سيارتك، فماذا ستفعل حينها؟ هل ستنزل من السيارة وتحضر سكينا تثقب به الإطارات الثلاثة الأخرى؟ هذا ما يحدث لأغلبنا حين نتبع نظاما غذائيا لمدة طويلة، وفي المناسبات حين يختل هذا النظام وبدلا من إصلاح الأمر والعودة إلى المسار الصحيح، نفعل ما يشبه ثقب الإطارات الثلاثة الأخرى.
تبدو محاولة تجاهل الرغبة الشديدة غير مُجدية هنا ولا تؤدي إلا إلى الشعور بالحرمان، إدارة هذه الرغبة من خلال الاستمتاع بكميات صغيرة الحجم يُجدي نفعا، فمثلا يمكنك إرضاء رغبتك في تناول الشوكولاتة بقطعة صغيرة من الشوكولاتة الداكنة، تتناولها في 10 أو 15 دقيقة، لتشعر بهذا الحدث.
كما يُنصح بتناول الوجبات الخفيفة المغذية لتجنُّب الجوع الشديد، واحمل معك علبة وجبات خفيفة من الفواكه المجففة مثلا والمكسرات وبعض الخضراوات أو الزبادي، لتواجه بها كل الأطعمة التي ستُحاصرك، لا يمكنك الخروج إلى "بيئة السمنة" وتتوقَّع ألا تُصاب بالسمنة، كما أنك لا يمكن أن تخرج تحت المطر دون مظلة وتتوقَّع ألا تبتل.
أخيرا، سواء خرقنا نظامنا الغذائي بمجرد وجبة واحدة أو لأسبوع أو حتى خلال إجازة استغرقت شهرا كاملا، فعلينا ألا نحاول تعويض ذلك بنظام عقابي من التغذية القاسية والتمارين الرياضية، فهذا يعني أننا سنخرق النظام في أول فرصة. الأمر يشبه حكاية السلحفاة والأرنب، عند اتباع نظام غذائي نريد جميعا أن نكون الأرنب، لكن مَن فاز في هذا السباق؟ (16)