عندما فازت حماس في الانتخابات عام 2006 وقامت بتشكيل الحكومة، كانت هناك في الساحة الدولية حاجة ماسة للتعرف على الحركة وقراءة ما يدور في ذهن ساستها ومفكريها، وخاصة فيما يتعلق برؤيتها السياسية وموقفها من الصراع مع دولة الاحتلال.. أسئلة كثيرة كان يطرحها المجتمع الدولي تعكس حالة الجهل والتضليل التي عاشها أصحاب الشأن السياسي في الغرب، سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو في دول الاتحاد الأوروبي.
من المعروف أن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة قد نجح في إدراج حركة حماس على قائمة الحركات الإرهابية في منتصف التسعينيات تقريباً، ثم قامت أوروبا – للأسف - بالشيء نفسه سنة 2003..!!
في السابع والعشرين من مارس 2006، أصبحت حماس حكومةً تتمتع بالشرعية الدستورية، وغدت تمسك بالملف الأهم في السياسة الدولية، حيث إن القضية الفلسطينية هي القضية الأولى في منطقة الشرق الأوسط ذات المكانة الإستراتيجية، باعتبار إمكانياتها البترولية الهائلة، وموقعها الذي هو بمثابة القلب للقارتين الأسيوية والإفريقية.. وحيث إن فلسطين - كانت وما تزال - هي القضية المركزية للأمتين العربية والإسلامية، وهي كذلك مهد الرسالات السماوية الثلاث؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، ويحظى المسجد الأقصى بمكانته المميزة في الوجدان الإسلامي كأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.. لذلك يأتي هذا التدافع في شدُّ الرحال إليه باعتبار أنه واجب على كل مسلم ومسلمة، ويرتفع قدر هذا الواجب كونه - الآن ومنذ عام 1967- قيد الأسر والاحتلال.
إن بيت المقدس كان عبر التاريخ هو المحرك للكثير من الصراعات والفتوحات الإسلامية بالمنطقة، وهو سيبقى كذلك إلى أن تعود الأرض إلى أهلها، ويتحرر القدس والمسرى.
أوروبا: محاولات لفهم حماس
مع بداية عملي كمستشار سياسي لرئيس الوزراء إسماعيل هنية في الحكومة العاشرة، وجدت طريقي للعديد من العواصم الأوروبية، حيث وجهت لي دعوات للحديث عن المتغيرات التي طرأت على الساحة الفلسطينية بعد الانتخابات التشريعية عام 2006 وعن رؤية حركة حماس السياسية، وعن الموقف تجاه دولة الاحتلال الإسرائيلي، كما أن الكثير من أركان السياسة في الغرب وأعضاء البرلمان الأوروبي جاؤوا إلى غزة بهدف الاستماع منّا لإجابات على تساؤلاتهم الحائرة.
لقد التقيت خلال عملي بالحكومة بالمئات من هؤلاء السياسيين والصحفيين ومسئولي المنظمات والهيئات الدولية والمجتمع المدني (NGOs).. كان الجميع يطرح نفس الأسئلة أو يدور حولها تقريباً، ويلهث خلف المعلومة التي تشفي غليله، حيث إن حماس فاجأت الدوائر السياسية في الغرب بالفوز الذي لم يكن أحدٌ يتوقعه. من هنا، كانت الصدمة وحالة الإرباك التي دفعت الجميع للبحث عن قراءة تريحه في فهم ألغاز وأحاجي "التسونامي السياسي" الذي وقع داخل الساحة الفلسطينية.
في الواقع، كانت دول الاتحاد الأوروبي متلهفة – بشكل كبير- لمعرفة اتجاهات التغيير الحاصل وسياقاته المرتقبة، حيث إنها قامت باستثمار مليارات الدولارات في بناء مؤسسات السلطة الفلسطينية، وعملت على تكييف مواقفها السياسية بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 في واشنطن.
لاشك - كذلك - بأن الرئيس بوش وأعضاء إدارته، الذين كانوا يخوضون معارك طاحنة مع الإسلاميين بذريعة "الحرب على الإرهاب"، أصيبوا بصعقة لم يتوقعوها جراء الفوز الكاسح لحركة حماس، وأخذوا يعملون على محاصرتها، وتطويق فرص استكمال نجاح مشروعها في التغيير والإصلاح أو التمكين لها في تقديم نموذج الحكم الرشيد.
وسط هذه الأجواء المحمومة في البحث عن حقائق الأشياء، لمعرفة اتجاهات حركة حماس القادمة بقوة للتربع على عرش المشهد السياسي الأكثر حساسية لدول المنطقة، والذي له امتدادات على مسرح الجغرافيا السياسية في الغرب، كانت تأتي الوفود تترى إلى غزة، قاصدة مجلس الوزراء للالتقاء بالرجل الأول السيد إسماعيل هنية ومساعديه (د. أحمد يوسف ود. غازي حمد) لكي تشفي غليل حاجتها لفهم بانوراما المشهد السياسي ورسم مسار تعاملها مع حكومة حماس.
في هذه المرحلة من التدافع الغربي المحموم باتجاه الحصول على المعلومة وتصفح معالم وجه حماس، كانت تأتي لنا الدعوات للاجتماع واللقاء في العديد من الدول الأوروبية.
كانت البداية في سويسرا، حيث تسنى لي ومن رافقني في تلك الرحلة من بعض قيادي الحركة طرح رؤية حركة حماس السياسية، والتي أجملناها في أن هناك إجماعاً وطنياً داخل الساحة الفلسطينية على دولة في حدود 1967 والقدس عاصمة لها، وضمان حق عودة اللاجئين كما نص على ذلك القرار الأممي 194، ونحن من جهتنا مستعدون لهدنة قد تطول إلى عقد أو عقدين من الزمان، لكنّ على طرف الاحتلال أن يعلم بأن هناك حقوقاً غير قابلة للتصرف أو المساومة عليها (Inalienable Rights) يجب أن تعود لأهلها، ونحن أو أي طرف فلسطيني آخر لا يمكنه التنازل عنها تحت أية عروض أو شروط أو ذرائع.. فالهدنة – من جهتنا - هي في الأصل مفهوم إسلامي لحقن الدماء وإعطاء الوقت لتسوية القضايا الشائكة وتفكيكها بالحوار، ونحن نأمل من وراء فترة التهدئة التي توفرها الهدنة خلق أجواءٍ لبناء الثقة حول إمكانيات العيش المشترك على أرضنا التاريخية بعد ردّ الحقوق كاملة لأصحابها.
ثم تتابعت اللقاءات مع جهات سويدية ونرويجية وهولندية وإيطالية وفرنسية وأمريكية.
أما اللقاء الأهم بين كل تلك اللقاءات فهو الزيارة التي قمت بها مع أحد نواب كتلة التغيير والإصلاح إلى لندن وبلفاست في نهاية عام 2006، حيث اجتمعنا مع جهات من حزب العمل الحاكم وشخصيات مقربة من رئيس الوزراء – آنذاك – توني بلير.
في تلك الزيارة، كان هناك الكثير من النشاطات الإعلامية والسياسية، ثم كانت الجلسة الهامة التي عقدت في مبنى البرلمان البريطاني، حيث التقينا فيها مع عدد من أعضاء مجلس اللوردات ومجلس العموم وجرت بيننا أحاديث وحوارات مطولة، استكملنا كثيراً من مداولاتها وتفاصيلها خلال الزيارات التي قام بها بعضهم إلى غزة.
وفي بلفاست، كانت لنا جولة ميدانية لمناطق الصراع ولقاءات هامة وحوارات مع عدد من السياسيين من حزب "الشين فين" وبعض أعضاء الجيش الجمهوري الايرلندي (IRA) السابقين.
تعاقبت الزيارات إلى أوروبا، وكانت سويسرا هي الحاضنة للعديد من هذه اللقاءات مع الأوروبيين.
لقد شعرت بأن الصورة النمطية للإسلاميين من حيث اتهامهم بالتطرف والإرهاب هي الغالبة على ذهنية هؤلاء السياسيين في أوروبا، إلا أن اللقاءات التي أجريناها مع الكثيرين منهم، جعلت البعض يقول: "نعم يمكننا التعامل مع حركة حماس"، بل إن كثيراً منهم طالب بضرورة التواصل مع الحركة والانفتاح عليها.
حماس: صراع الصورة والكلمة
لقد أدركت منذ اللحظة الأولى لتشكيل الحكومة العاشرة أن أمامي تحديات كبيرة لمحاربة الصور النمطية السائدة في الغرب تلك الصورة التي عشت مشاهداً لها ومعانياً من تداعياتها على حياة جاليتنا العربية والإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية لقرابة عقدين من الزمان.. لا شك بأن فهمي لأبعاد هذه الصور النمطية قد أوجب علّي أن أفرّغ الوقت للساني وقلمي لخوض معركة الكلمة إلى نهايتها.. لم تكن الأمور في البداية سهلة، لأن حجم العمل الحكومي كان كبيراً والمهمة مثقلة بالتبعات، والساحة الإسلامية غير جاهزة لخطاب تتوسع فيه – بذكاء وحكمة - أفاق الرؤية وتهدأ معه الحناجر الصاخبة، حيث وجدنا أنفسنا وسط هذه الضغوطات نحارب على أربعة محاور وعدة جبهات، فالتآمر الغربي - وخاصة الأمريكي - لعزلنا سياسياً وحجب ثقة العالم عنا، ثم التواطؤ الإقليمي الواسع حيث وجدت بعض الرسميات العربية أن فوز حماس يشكل تهديداً لاستقرارها، ثم الجبهة الداخلية الأكثر سخونة حيث المناكفات والمناوشات وحالة الفلتان الأمني التي كانت تديرها جهات داخل حركة فتح خاصة في أجهزة السلطة الأمنية لإجهاض تجربة حماس وإفشالها.. والأخطر كان العدوان الإسرائيلي الذي لم تتوقف عمليات اجتياحه للمناطق الحدودية، واستهدافه المستمر لزعزعة الاستقرار وتصعيد وتائر المواجهات مع فصائل المقاومة؛ تكتيكات التحرش أي الفعل وانتظار ردّ الفعل لتصعيد الرد العسكري في متوالية لا تتوقف، حتى لا تنعم غزة بالهدوء والأمن يوماً واحداً.
أخذ قلمي – كما لساني – طريقه للذود عن صورتنا الوضيئة وقضيتنا العادلة، والعمل على كشف إدعاءات دولة الاحتلال المارقة وجرائمها المتكررة على شعبنا، حيث اعتادت على القيام بانتهاكات صارخة للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
لاشك أنني كنت محظوظاً أحياناً أن تجد بعض مقالاتي طريقها للصحافة الغربية وبعض المواقع المؤثرة للانترنت بالغرب، حتى أنني نجحت في نشر بعض مقالاتي في الصحافة العبرية وخاصة صحيفة (هآرتس) في طبعتها الإنجليزية.
أعتقد أنني نجحت – كذلك - في الوصول إلى كل صحف النخبة في الغرب بلغاتها المختلفة، كما وجدت أن هناك إقبالاً من الفضائيات الغربية على استضافتي للبرامج الحوارية التي منحتني الوقت الكافي للشرح والتفصيل، دفاعاً عن حكومتي وحركتي الإسلامية (حماس).. كان البعض يعزو ذلك لإجادتي للغة الإنجليزية، والبعض الآخر يعتقد أن مرجع ذلك هو أنني رجل واقعي أتحدث بلغة العقل والمنطق وليس بإطلاق العنان لحنجرتي كما يفعل الآخرون.. ولعل هناك سبباً آخر كنت أشعر به وهو غياب الناطق الإعلامي أو رجل السياسة الجاهز دائماً للحديث لوسائل الإعلام التي تطلبه في أوقات يحددها "الخبر العاجل" وليس راحة السياسي والإعلامي الممثل للحركة أو الحكومة.. كنت كعادتي أترك هاتفي مفتوحاً طوال الوقت، ولا يزعجني أن أنهض لنداء الواجب سواء أكان ذلك ليلاً أو نهاراً.. كنت أرى نفسي أقف على ثغرة يتوجب ألا أغفل لحظة واحدة عنها، لأنها الثغرة التي تعوّد الأعداء النفاذ منها وتسجيل انتصارات إعلامية علينا.
لقد شعرت بمدى الحاجة إلى المدافعين عن الحركة والحكومة إبان العدوان الواسع على غزة في 27 ديسمبر 2008، حيث اختفى الكثيرون لأسباب ودواعي أمنية.. لقد وجدت نفسي في مهمة لا يمكنني الغياب معها، ولا بدَّ من التعاطي مع ضروراتها ولو كلفني ذلك حياتي، التي هي في النهاية ليست أثمن من أي مقاوم على ثغور هذا الوطن الغالي، بل هي الشهادة التي يطلبها بشوق كل من ترعرع على ثرى هذه الأرض المباركة وتنسم هواءها.
وفعلاً نجحت في أن أكون على تواصل مستمر مع التلفزة الغربية عبر الهاتف، ومع مواقع الانترنت من خلال المقالات التي أرسلتها لها عبر الإيميل. إن المقالات والرسائل والمقابلات - الإذاعية والمتلفزة – التي كانت هي إطلالتي على الساحتين الأوروبية والأمريكية، وقد تمكنت من خلالها على إيجاد فهم أفضل لحماس في الدوائر الغربية، كانت هي بعض هذا الجهد الذي آليت على نفسي بذله دفاعاً عن شعبنا وقضيتنا، وهي –بلا شك- كانت بمثابة السهام التي نجحت في اختراق جدار التحريض والتشويش والتشهير والخداع الصهيوني، الذي أعتقد أن آلة دعايته سوف تستمر في محاولاتها لإجهاض أي عمل أو جهد يمكن أن يقوم به الفلسطينيون للتعريف بقضيتهم والدفاع عنها في معركة "كسب الرأي العام الغربي"، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
إن علينا أن ندرك بأن الساحة الغربية والرأي العام الغربي هي محطة للضغط لا يمكن التهوين من أمرها، ولقد كانت التظاهرات والاحتجاجات التي تحركت بمئات الآلاف في شوارع لندن وباريس وواشنطن واستانبول وباقي العواصم الغربية ضد الحب على غزة وراء قرار إسرائيل بوقف عدوانها وانسحاب جيشها بعد 22 من الصمود الأسطوري والمقاومة الباسلة.
إن علينا كذلك الوعي بأهمية العمل الإعلامي وضرورة تجنيد الكفاءات القادرة على توظيف الصورة والكلمة في عالمٍ أصبحت فيه الأبعاد لا قيمة لها في فضاءات الشبكة العنكبوتية، وتقارب جغرافيا العالم إلى واقع غدونا فيه كأننا جميعاً نعيش في حارة واحدة (Neighborhood) أو على مسافة لا تتجاوز مقرط عصا (Click away).