قبل شهرين، وبالقرب من حاجز بيت إيل على مشارف البيرة، أعدمت قوات الاحتلال الفتى هيثم مبارك ابن الستة عشر بشكل مباشر، ثم احتجزت جثمانه كوسيلة ضغط لزرع القهر في قلب الفلسطيني.
دون أي معلومات ترك الاحتلال العائلة تعاني غياب ابنها بعد أن فتحت قبره لشهرين متتابعين، وهي تراقب الأيام والليالي حتى يعود وتخمد النار في القلب بدفنه.
لم يكن هيثم سوى شاب مسالم نكل الاحتلال بجسده والعائلة لم تعرف بداية الأمر طبيعة إصابته، حتى وصلها خبر استشهاده، ثم عرفت من الارتباط الفلسطيني بأن جثة ابنهم ذهبت إلى مستشفى أبو كبير لتشريحه.
ومضى شهران على القبر الذي ينتظر صاحبه، ثم بالأمس عاد هيثم، جثمان من دون روح، من ثلاجة باردة بجسد مجمد، وأحاطت أمه وجهه الطفولي وعينيه الذابلتين بأزهارها الملونة. بينما أبدى والده قوة كما يفعل كل فلسطيني قائلا: "نحن قدمنا ابننا شهيدا للأقصى وللمسلمين، ولا نقول غير لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا عدو غاصب وعصابات صهيونية مستأجرة، لا فرق لديهم بين كبير وصغير، لا أحد يردعهم ولكننا نحمل في قلوبنا يقين بالنصر، والنصر قادم".
هيثم شاب متفوق في دراسته، كان يتمنى أن يتخرج هذا العام من الصف الحادي عشر العلمي، لينتقل إلى الثانوية العامة، ويطمح بأن يغادر إلى أمريكا لإكمال دراسة الطب بجانب أخيه المقيم هناك، كان يحمل حلما، وبراءة مرسومة على ملامح وجهه الذي احتضنته أمه وهي تقبل جبينه البارد.
الأم فرحة بعودة جثة طفلها وتمدده على سريره كمولود أنجبته بالأمس، تلتمس بعضا من دفء حرم منه جسد صغيرها شهرين متتابعين، وهي تناجيه: "نام يا أمي، أنا كنت بجري بدي أجيبك من الثلاجة وأنيمك على سريرك، عملت كل جهدي، سامحني يا أمي تأخرت، الله يرحمك يا أمي ويوسع عليك قبرك، راح نلتقي قريب أنا وأنت يا هيثم، وعد مني يا أمي".
همسات الأم التي انكبت على جسد ابنها البارد تقطع نياط القلوب، وهي تقول" أنا مش حقدر اتخلى عنك يا أمي، مش حقدر أسيبك"، مناجاة تمثل وجع الفلسطيني المركب فوق بعضه، في امتداد طويل من العمر لجثامين كثيرة محتجزة، قلبت عودة هيثم مواجعها في قلوب أمهات كثيرات وهن يراقبن الجسد المجمد وهو يوارى الثرى، القبر الذي أصبح حلما من أحلام أمهات الشهداء.
وهناك في ثلاجة مجهولة العنوان، 102، شهيد محتجز، بينهم 11 طفلا وثمانية أسرى، هذا غير 256 جثمان في مقابر الأرقام لا يعرف عنها شيء، ومنها جثامين محتجزة منذ خمسة عقود.
كل هذا الصلف الذي يستخدمه الاحتلال في إذلال الفلسطيني مناف لكل مواثيق العالم، فلم يثبت عبر التاريخ أن احتجزت أي حكومة جثامين الموتى وحرمت عائلاتها من دفنها، حسب ما يقول حسين شجاعية المنسق الإعلامي للحملة الدولية لاستعادة جثامين الشهداء.
قانونيا ووفق شجاعية فإن أمر استعادة الجثامين بدى أكثر تعقيدا ويخضع لمزاجية الاحتلال، خاصة بعدما سن قوانين جديدة لاحتجاز جثامين الأسرى والأطفال ثم ربط كل هذا الملف بالجنود المأسورين في غزة كمحاولة أخرى لإذلال الفلسطيني.