بينما يقف العالم على عتبة المنتصف من كل شيء، ويتهافت على التطبيع من كل صوب، تقف غزة المحاصرة منذ خمسة عشر عاما ملتفة حول كتائب القسام، لا يذل فيها قلب، ولا تكسر لها عزيمة، وهذا ما أظهرته صورة الانطلاقة والكتائب تتقدم الصفوف، تخترق الجماهير التي تنتظرها من بكرة الصبح، تدخل بينها كأي جندي يحرس القبيلة.
تنثر الأمهات والنساء الورد على مقاتليها العائدين كل يوم من معركة، وهم يسيرون منتظمين في استعراض عسكري منظم فريد، ثم يصعدون بانتظام على المنصة الظهر مسنود على السلاح، والوجه متأهب، وقفة تغيظ العدو، وتؤنس قلوب الأسرى في سجون الاحتلال وهم ينتظرون فرجا يعرفون أنه سيأتي على يد هذا الجيش وهو ينشد:
نحن الأسود يا قدس فاشهدي
نفديك بالدماء يا أرض الأنبياء
وغدا سيشرق نصرنا مع صبحك الندي
ثم يتبختر الجنود القساميون كأمراء الحق، كأي جيش منظم حول العالم، بإمكانيات ذاتية، وهو الذي بنى قوته بطعم الحرمان، بالإمكانات والمواد المسموح دخولها مرة، والممنوعة ألف مرة، صنع سلاحه بيديه، ومقاومته بذراعيه، فأصبحت رسائله تجوب العالم، تحاول (إسرائيل) أن تقضي عليه في خمسة حروب، أو أكثر، لم يعد العدد فارقا، الفارق الحقيقي أنها لم تقدر.
ويقف الجنود كطائر الفينيق بعد كل حرب، يخرجون كالسحر من أمواج بحر غزة، من ترابها، ومن تحت الأنقاض، فيفاجئون العالم، ويفاجئون غزة بأنهم جديرون بها.
ويقولون وهم يصعدون منصتهم يمددون أسلحتهم بأيديهم:
عصر الرياح نبض السلاح.
في كل ساح يا قدس فاشهدي.
قد طال شوقنا، قد آن ثأرنا، وغدا سيشرق نصرنا مع صبحك الندي
القدس حاضرة في قلب المشهد، في بداية الحديث وآخره، وهم يستعرضون قوتهم التي لا يقدر أحد على أن يمن عليهم في شيء منها، فهم وحدهم من طورها.. صنعوا، وقدموا للقدس صورة عن قوة الحق، بالجمال الذي يرتضيه الخالق، ويغيظ الأعداء، وتركوا للعالم حكمه، فإن ظلم فهذا شأنه، وإن كان عادلا، فتلك طبيعة الأسوياء.
لقد كانت القدس رسالة القسام الأولى، لأجلها قامت معركة ولأجلها تقوم كل المعارك، ولأجلها ربما ستكون المعارك القادمة، حاضرة في الاستعراض الطويل الذي انتهى بكلمة رئيس الأركان محمد الضيف.
صوت الضيف، قوي ثابت كثباته في كل مرة، صوت دون صورة، يكفي أهل غزة للثبات لسنوات طويلة قادمة، يزدان باليقين، وليس كل صوت يمكن أن يسمع فيه صوت اليقين، ويرسل رسائله البسيطة السريعة الخاطفة، ما قل ودل إلى الطريق.
ولعل أجمل ما تلا ذلك الاستعراض القسامي، رسالة أرسلها من مكانه المجهول: "فلتتوحد كل الرايات ولتلتئم كل الجبهات ولتفتح كل الساحات لهدف واحد وغاية كبيرة نبيلة مقدسة وهي تحرير فلسطين".