منذذ انطلاقة مونديال قطر 2022 لم تستطع ألمانيا بناء علاقة حسنة معه، بداية بالانتقادات المبررة وغير المبررة ضد البلد المضيف، مرورًا بشارة "One Love" ومنعها من الفيفا واستبدالها بتكميم لاعبي المانشافت أفواههم بأيديهم دلالةً على قمع حرية التعبير، نهايةً بالخروج المخزي من الدور الأول، فكانت دائمة الشكوى والتذمر، وهكذا انشغل إعلامها بإصدار المواد الصحافية والتقارير المصورة، بالإضافة للوثائقيات والبرامج الحوارية بحضور الخبراء والسياسيين والمشاهير لإقناعنا بقبح هذه البطولة وأن المقاطعة واجب إنساني يطهّر الذنوب.
تغيّرت هذه الوتيرة تدريجيًا وتراجعت تباعًا بعد إتمام صفقة الغاز مع قطر، فبدأنا نشاهد التقارير الإيجابية حول ثقافة البلد العربية الجميلة وتنظيمه العالي للبطولة واحتفالات الجماهير الكروية العالمية في الدوحة، المراجعة الذاتية كانت حاضرة كذلك وصرنا نسمع آراءً موضوعية تخبرنا أن النقد السابق كان مبالغًا، إلا فيما يخص العلم الفلسطيني وحضوره اللافت فقد كان للإعلام الألماني موقفًا ثابتًا وعلاقةً غير ودية معه.
في البداية شهدنا تجاهلًا تامًا لتواجد العلم ذو الألوان الأخضر والأحمر والأسود والأبيض الذي كنا نراه داخل الملاعب وخارجها بشكل دائم، فكان بمثابة الفيل الضخم في الغرفة الذي لا يرغب أحد الحديث عنه، حتى المعلقين الذين اعتدنا أن يخبروننا كل صغيرة وكبيرة خلال تعليقهم على المباريات لم يشرحوا لنا سبب تواجد هذا العلم بين المشجعين على المدرجات بالرغم من عدم مشاركة منتخبه الوطني.
تبدل هذا الحال مع التقارير المتتالية حول مقاطعة المشجعين العرب للإعلام (الإسرائيلي) في الدوحة، حيث كان العلم مرافقًا لبعضهم، فأوردت قناة "ntv" تقريرًا مكتوبًا وصفت في مقدمته عدم ترحيب المشجعين بالمراسلين الإسرائيليين وتوبيخهم بـ"العنف المعادي للسامية"، على الرغم من عدم ذكر الصحافيين الإسرائيليين لهذا المصطلح في المقابلة مع المحطة الألمانية، بل أن أحدهما قالها بوضوح إن الأمر "كرهًا في الممارسات الإسرائيلية، وأن هذا الكره لن يزول حتى حل الصراع مع الفلسطينيين".
البرنامج الرياضي "Sportschau" الأكثر متابعةً في ألمانيا على القناة الرسمية الأولى والذي يقوم بتغطية المونديال، نشر عدة تقارير حول الحضور القوي للعلم وشارة اليد الفلسطينية، أحدها كان يراه ردًا متعمدًا على شارة "One Love"، فيما لم يخبرنا المراسل من يقف خلف هذا الرد، كان لصحيفة "Welt" رأيًا واضحًا، حيث اتهمت الفيفا وقطر بازدواجية المعايير وغض الطرف عن تمرير رسائل سياسية من خلال المونديال، فيما مُنعت أخرى.
تفاقم الأمر مع تحقيق المنتخب المغربي للإنجازات المتتالية واحتفال أسود الأطلس بالعلم الفلسطيني، فاستغربت صحيفة "Zeit Online" سماح الفيفا بذلك، وذكرت دون أي ربط ومناسبة أن "فلسطين دولة غير معترف بها". أما صحيفة "Bild" نشرت تقريرًا ضمّنته بتغريدة لأحد صحافييها دون أي تعليق من طرفها، حيث يقول من ضمن ما يقول في وصف صورةٍ للاعبي المنتخب المغربي مع العلم الفلسطيني إن "علم دولة غير موجودة تريد رمي سبعة ملايين يهودي في البحر - لا مشكلة". وفي مادةٍ أخرى أفسحت المجال لسياسي وآخر مستشار للحكومة الإسرائيلية كان متحدثًا سابقًا للجيش الإسرائيلي وآخر عرّفته على أنه "خبير بالتطرف" ليدلوا بدلوهم، فأجمعوا أن "العلم الفلسطيني إشكالي ومعادي للدولة اليهودية الوحيدة في العالم، وأنه يظهر مع بعض المشجعين الذين يقومون بأعمال شغب وعنف في المدن الأوروبية".
الصحافي الألماني و"عالم الإسلاميات"، فابيان غولدمان، نشر تغريدةً على موقع تويتر ضمّنها بصورةٍ احتفالية للاعبي منتخب المغرب مع العلم الفلسطيني قال فيها:
"هذا ما يبدو عليه لاعبو كرة القدم الذين يُظهرون تضامنًا مع حقوق الإنسان من منطلق اقتناع حقيقي وليس بسبب أي إستراتيجيات للعلاقات العامة".
كثيرون تفاعلوا مع التغريدة بشكل سلبي ومن ضمنهم صحافيون وسياسيون معروفون، فالبعض تساءل متهكمًا "أين هي حقوق الإنسان في الصورة"؛ آخرون اعتبروا أن "قطر التي تدعم حماس تقف خلف ذلك"، فيما اعتبرها البعض أنها "معاداة للسامية"، وهذه الأخيرة تبنّتها صحيفة "taz" حيث اعتبرت أن "فرحة انتصار المنتخب المغربي ممزوجة بمعاداة السامية" بسبب احتفالهم مع العلم الفلسطيني، وتوصلت إلى أن "عصابة الأسرة القطرية الحاكمة تحاول إضفاء هذه الصبغة المعادية للسامية على تلك البهجة لتأمين سلطتها".
يخبرني غولدمان أن "مثل هذه المزاعم حول معاداة السامية أصبحت جزءا من الحياة اليومية في وسائل الإعلام والسياسة في ألمانيا. لكنهم في بطولة كأس العالم الحالية وصلوا إلى مستوى جديد. فمجرد وجود علم فلسطيني أو ذكر فلسطين هو سبب كاف لوصف الناس بأنهم معادون للسامية".
ألحقت صحيفة "taz" مادتها تلك بمادة أخرى وصفت فيها العلم الفلسطيني أنه "عامل تفرقة" ضمنتها بصورة لمهاجرين في ألمانيا يحتفلون بالعلمين المغربي والفلسطيني.
في حديث مع سميرة وهي ألمانية مغربية تتابع مشوار أسود الأطلس بشغف في البطولة، تقول إنه "رغم التطبيع الراهن فإن تضامن الشعب المغربي مع القضية الفلسطينية لا يختلف عن نظيره في تونس والجزائر، تحديدًا جمهور كرة القدم المعروف بوعيه السياسي والذي يعبّر عن ذلك في مختلف المناسبات والفعاليات برفع الأعلام والرموز الفلسطينية، كذلك هنالك أهازيج معروفة لمشجعي ألتراس الأندية الكروية المغربية تعبّر عن مدى حبهم لفلسطين، فمن البديهي جدًا أن يكون كل هذا حاضرًا معهم في قطر خلال تشجيعهم للمنتخب الوطني".
تؤكد سميرة على ارتباط المغربيين المهاجرين بالقضية الفلسطينية تمامًا مثل أقرانهم في الوطن؛ "حتى لو لم يتكلموا اللغة العربية، وذلك يعود ربما إلى أصولهم الأمازيغية، وهذا شيء طبيعي لدى الشعب المغربي ككل، فارتباطهم بالقضية الفلسطينية لا يعود بالضرورة للهوية العربية أو الأمازيغية، وإنما على الأرجح بسبب الانتماء الديني الذي يلعب دورًا مهمًا خاصة في المهجر، وهو حال لاعبي المنتخب باختلاف هوياتهم ونشأتهم في المغرب كانت أم في أوروبا، لذا من الطبيعي جدًا أن يرفعوا العلم الفلسطيني خلال احتفالهم بالنصر". كما تخبرني أنها كانت شبه متأكدة من أن ذلك سيثير ضجةً في وسائل الإعلام الألمانية، فقد اعتادت شيطنة كل شيء يتعلق بفلسطين في القنوات والصحف المعروفة بمواقفها الداعمة (لإسرائيل).
هذا ما حصل فعلًا عندما بثّت محطة "Welt" تقريرًا قامت بحذفه لاحقًا والاعتذار عنه، يربط بين لاعبي المنتخب المغربي وتنظيم داعش الإرهابي، بسبب رفعهم إصبع السبابة احتفالًا بفوزهم على البرتغال. ينّوه عالم الإسلاميات فابيان غولدمان أن "هناك ميل في الإعلام الألماني منذ فترة لإثارة إشكالية أي مظهر من أساليب الحياة والثقافة الإسلامية. لكنها لم تصل أبدًا إلى هذا الحد مثل بطولة كأس العالم هذه، حتى أن أحد المؤثرين، وهو ضيف دائم لدى وسائل الإعلام الألمانية، فسّر مشاهد تقبيل لاعبي المنتخب المغربي لأمهاتهم على أنه خضوع للنظام الأبوي الإسلامي"، ويرى أن "المعركة المفترضة ضد معاداة السامية تحولت إلى دعمٍ للعنصرية خاصة ضد الفلسطينيين. تكاد تكون معاداة السامية قضية في ألمانيا فقط إذا كان بوسع المرء اتهام المسلمين أو المهاجرين بها. علمًا أنه وفقًا لإحصاءات الشرطة فإن أكثر من 90% من جرائم معاداة السامية في ألمانيا يرتكبها متطرفون ألمان يمينيون".
في تقرير تلفزيوني يتيم تفرّد به برنامج "Sportschau" الرياضي وبثّه على القناة الرسمية الأولى في السادس من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، يتحدث عن الحضور المميز للعلم الفلسطيني في مونديال قطر تضمّن إلى جانب الطرح الموضوعي وجهة نظر عربية منصفة، بالإضافة لمشاهد احتفال لاعبي المنتخب المغربي والمشجعين على المدرجات، كذلك الأمر في ساحات وشوارع الدوحة وتعبيرهم عن تضامنهم الكبير مع فلسطين، وجرت استضافة عائلة فلسطينية لاجئة مقيمة في قطر، تحدثت عن فرحتها بذلك وأن فلسطين كما أوكرانيا بلد محتل تستحق هذا التضامن الدولي. المشجع الإنجليزي الذي صرخ في ميكروفون المراسل الإسرائيلي "Free Palestine" كان حاضرًا في التقرير، الذي انتهى بعبارة أن "الفائز بكأس العالم بالنسبة للبعض قد تم تحديده بالفعل: فلسطين".
الغريب أن التقرير لم يتم نشره كما هو معتاد على موقع البرنامج الإلكتروني، ومضت أيام فتساءل البعض عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن ذلك. قمت بمراسلة البرنامج في إطار كتابة هذه المادة الصحافية والاستفسار، أجابني أحد المشرفين بأنه لا يستطيع تفسير ذلك نظرًا لسير العمل المعمول به، ويقصد "رفع كافة التقارير كالمعتاد" وأن هذا يعود على الأرجح إلى أن هنالك عدة تقارير للموضوع ذاته، لكنهم قاموا لاحقًا بنشر هذا التقرير أيضًا، وحدث ذلك قبل مراسلتي من المشرف بنصف ساعة فقط بتاريخ 14 تشرين الثاني/ نوفمبر، أي بعد 8 أيام من بثّه.
المصدر: عرب 48