لا شك أن المخاطر المتزايدة والمتسارعة ضمن نظرية المزاحمة التي يمارسها الاحتلال في مدينة القدس وسعيه الحثيث نحو تطبيق فكرة الاعتياد من خلال خلق صورة ذهنية لتطويع العقل العربي والإسلامي نحو تقبل الوضع الراهن من التواجد الاستيطاني التلمودي، وإلغاء هوية القدس الإسلامية والعربية، واستبدالها بالهوية اليهودية التائهة التي ما لها من قرار.
ويأتي فى سياق ذلك اقتحام رئيس وزراء حكومة الاحتلال "نتنياهو" لساحة البراق وأداء الطقوس التلمودية، وإعلان "بن غفير" نيته اقتحام المسجد الأقصى ضمن مجموعة كبيرة من المستوطنين يوم الثلاثاء القادم، مما يشير إلى تبييت النوايا السيئة، وتنفيذ سياسة حاقدة وعنصرية أعدت سلفًا، وتتماشى مع تنفيذ استراتيجية قديمة حديثة لاستهداف وتهويد الأقصى وخلق وقائع جديدة تمس حرمته، وذلك لتحقيق الأوهام التلمودية المزعومة.
لقد سعى الاحتلال ومنذ أن أحكم السيطرة علي الشطر الغربي لمدينة القدس عام 1948م، ومن ثم احتلال الشطر الشرقي عام 1967م لوضع استراتيجية كاملة الخطوات والبرامج لإحكام السيطرة على مدينة القدس بشقيها الغربي والشرقي، فقام بإنشاء المستوطنات رغماً وتوزيعها بشكل مخطط له، وذلك من أجل تمزيق وفصل المدن الفلسطينية عن القدس، وبالتالي عزلها عن الضفة لتعزيز بسط قبضته على المدينة وتهويدها، وتأكيداً على النوايا المبيتة لتلك الاستراتيجية، فقد أعلن حاخام الجيش آنذآك "شلومو غورين" من خلال صلاته عند حائط البراق عام 1967م أن القدس بشطريها لليهود، ولا تهاون في هذا الأمر فهي حق لليهود، وهي العاصمة الأبدية التي لا يمكن لأي يهودي التنازل عنها، فعقيدتنا تقول أن القدس موحدة، وهي لليهود عاصمة أبدية، وعليه فقد قام الاحتلال في يوليو 1980م بسن قانون أقرته الكنيست الإسرائيلي عرف باسم: (القانون الأساسي للقدس الموحدة) معتبرًا مدينة القدس الموحدة هي عاصمة الإسرائيليين.
وتأتي هذه الإجراءات وهذه التدابير التكتيكية المدعومة بسن القوانين ضمن التخطيط الاستراتيجي المعد مسبقا لإعادة القدس -كما يدَّعون- إلى أصحابها اليهود-، وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه، وبالفعل لم يتوقف الأمر إلى هذا الحد، بل تمادى واستمر الاحتلال بالعمل الجاد والمستمر من خلال البدء بالحفريات أسفل مدينة القدس بهدف إلغاء أي وجود للتراث الإسلامي، وطمس الأسماء العربية واستبدالها بأسماء عبرية وكل ما له علاقة بالعروبة والإسلام وصبغها بالصبغة العبرية واليهودية كنوع من إضعاف الحقيقة الفلسطينية فى مقابل تقوية الرواية اليهودية . هذا ما أكده ما يسمى بوزير الأديان الإسرائيلي "زيرح فار هنيك".
إن هذه الاستراتيجية التي ننتهجها، وخطوات التهويد والحفريات المستمرة تهدف كلها لإعادة (الدرة الثمينة) إلي سابق عهدها، وهذا يعنى إعادة بناء الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الاقصى، هذا يتطلب إزاحة كل العراقيل والموانع للوصول إلى مكان الهيكل، وبالفعل تم هدم وإزالة المباني الملاصقة لحائط البراق، والتي بلغ تعدادها 135 منزلاً في حارة المغاربة، وهدم البيوت المجاورة للزاوية الفخرية؛ وذلك لأنها تقف عائقاً أمام عمل الحفريات.
ربما ما صرح به وزير الحرب "موشي ديان" آنذاك ردًا على الصحفيين في مناطق الحفريات المجاورة للحائط البراق يؤكد ذلك: أُفضل ان أرى الصور كما كانت في عهد الهيكل الثاني، ويمكن إزالة الآثار الأخرى لأنها تخفى عنا رؤية الصورة كاملة كما كانت في حينها".
لقد اتخذت تلك الخطط عدة مظاهر وأساليب مختلفة ومتباينة، وكان من أبرزها الحفريات حول المسجد الأقصى وأسفل منه من الجانبين الغربي والجنوبي، والذي أدى إلى تصدعات في جدران المسجد الأقصى، حيث لم تتوقف هذه الإجراءات والتجاوزات بحق التراث الإسلامي في تحدٍ واضح للمبادئ والقرارات الدولية، حيث أقر المؤتمر الدولىي المنعقد في عام 1945م، وقف التجاوزات المتمثلة بالحفريات بمدينة القدس، على اعتبار أنها مناطق محتلة لدولة أخرى، ولا يجوز للاحتلال إجراء أي نوع من الحفريات فيها، لكن الاحتلال –كعادته- لم يعط أي قرارات تتعارض مع تطلعاته الاحتلالية أي أهمية تذكر.
وبحسب الأمم المتحدة، فإن سلطات الاحتلال ما بين 2009م وحتى 2022م أقدمت على هدم 1725 منزلاً ومنشأة. وهنا نتساءل في ظل كل هذه الحماقات والممارسات والاقتحامات المستمرة بشكل شبه يومي، والتي جاء آخرها توعد "بن غفير" لاقتحام المسجد الأقصى ضمن مجموعة كبيرة من المستوطنين، ودعوته للحكومة الفاشية إلى وضع خط أحمر للأردن فيما يتعلق بالوصاية على المسجد الأقصى والحد من نشاطها تدخلها، إضافة إلى إطلاق العنان للمستوطنين وإعطائهم مساحة أكبر للاقتحامات وأداء الطقوس التلمودية، على اعتبار أنها باتت جزءًا من الوضع الراهن، وأن خطوات التهويد لعبرنة المسجد الأقصى لن تعود للوراء.
وأمام هذا كله، وهذا الدعم الواسع عبر الحركات الدينية اليهودية المنتشرة عبر العالم لتهويد القدس نتساءل ماذا أعددنا نحن الفلسطينيين؟؟ هل إن الهبات وتواجد المرابطين وصمود أهل مدينة القدس يكفى وحده في ظل غياب استراتيجية كاملة من الكل الفلسطيني في مواجهة هذه القوة و هذا الخطر الداهم والمتزايد نحو تهويد وعبرنة مدينة القدس والمسجد الأقصى؟
الخلاصة
في ظل الحكومة "الإسرائيلية" اليمينية الفاشية الجديدة وغياب الدور العربي والإسلامي المستغرب لحماية مدينة القدس ومحاولة سحب الوصاية الأردنية للأقصى، أعتقد أنه آن الأوان لنا كفلسطينيين أن نقلع شوكنا بأيدينا، وذلك من خلال إيجاد استراتيجية كاملة لحماية القدس وإيقاف زحف المستوطنين نحو تهويدها فقد ضاع من الوقت الكثير .