كما الطفل حين يهرع إلى حضن أمه ليشعر بالأمان، يهرع الأسرى المحررون لحظة الإفراج عنهم، لزيارة المقابر التي تحتضن الراحلين عن الدنيا من أحبائهم فترة أسرهم، فتلك باتت سُنة يتبعها المحررون لحظة كسر قيدهم.
عدسات الكاميرا ترصد تمتمات المحرر وهو ينكفئ على قبر والديه يقرأ القرآن ويدعو كثيرا، ثم يهمس إلى أمه وأبيه عبارات لا يسمعها أحد.
قبل أيام قليلة أفرجت السلطات (الإسرائيلية)، عن الأسير كريم يونس – 64 عاما- بعدما قضى 40 عامًا، في زنازين الاحتلال، حيث كانت وجهته الأولى قبر أمه، ليرقد بجانبها دقائق ويخبرها بأنه "أخيرا كسر قيده"، ثم توجه لقبر والده.
المحرر وليد الهودلي، يقول للرسالة نت "لحظة الإفراج عني زرت قبر والدي، وذلك من باب الحنين للوالدين ولأروي ظمأ اشتياقي لهما، مضيفًا "نفعل ذلك لأنه شيء من الوفاء، وبداية لحياة وميلاد جديد فهما الحبل المتين".
ويذكر الهودلي أن الأسير طيلة الوقت يبقى قلقا على عائلته ويخشى فقدان أحدهم، وحين يأتيه خبر وفاة أي فرد يحزن كثيرا، لذا بعد الإفراج يحاول تحدي الاحتلال أكثر ويذهب للمقبرة وفاءً وارتباطا بالعائلة التي يسعى المحتل طيلة الوقت تفريقها.
ماذا يهمس المحرر عند قبر والديه؟ يجيب:" كمسلمين ندعو ونقرأ الفاتحة ونسلم عليهما احتراما وتقديرا.
والأكثر إيلاما كان حال المحرر الهودلي حين جاءه خبر وفاة ابنه وهو بعمر 14 عامًا، عبر هاتف مهرب، كتم الخبر مدة أسبوعين حتى موعد الزيارة، فقد كان يخشى الإعلان خوفا من الكشف عن وجود الهاتف.
ويقول: "بقيت حزينا صامتا أعيش الحزن في داخلي وحيدا، وبعد الإفراج عني قهرت مرة أخرى لعدم تمكني من السفر وزيارة قبر ابني في إربد بالأردن".
والأكثر قهرا تبقى الأم تنتظر الإفراج عن ابنها سنوات طويلة تصل لثلاثة عقود، لا تكل ولا تيأس وهي تجهز كل موسم الأكلات التي يحب حال خرج بصفقة، وتختار له زوجه وتجهز له بيتا، لكن الموت يخطفها قبل الإفراج عن فلذة كبدها.
لكن هناك الأكثر ألما كما جرى مع أم فارس بارود التي فقدت بصرها حزنا على ولدها وبقيت تنتظره حتى فارقت الحياة، وبعدها بسنوات قليلة ارتقى شهيدا في سجون الاحتلال الذي لا يزال يحتفظ بجسده.
وهنا تفسير جديد يحكيه المحرر محمد خلف الذي قضى 11 عامًا ونصف في سجن جلبوع، وقال "أصعب خبر يتلقاه الأسير هو وفاة أحد أفراد عائلته، ودوما كنت أخشى أن يأتي خبر مثل ذلك، لكن أحمد الله أنني لم أعشه".
ويذكر خلف "للرسالة نت" أنه عند سماعه عبر الراديو خبر حادث طريق في المنطقة التي تسكنها عائلته يبقى طيلة الوقت خائفا أن يكون أصابهم مكروه إلى أن يأتي موعد الزيارة ويطمئن عليهم".
وبعد الإفراج عنه يروي أنه كان يخجل من والدتي الأسيرين صالح أبو مخ وكريم يونس وغيرهما من أمهات الأسرى أصحاب الأحكام العالية، خاصة أن سؤالهن قبل وفاتهن كان واحدا "معقول يما يا محمد ألحق أعيش واحضن ابني قبل ما أموت".
ويرى أن زيارة قبور الأهالي تأتي من باب العرفان للوالدين فهما تحملا قسوة الطريق عند زيارة السجون، ووحدهما من حملا هم الابن الأسير، وهما من يسألان عنه فترة اعتقاله، ولأنها زيارة وفاء وحب تكون المقبرة الوجهة الأولى للأسير.
ويحكي موقفا كان شاهدا عليه للمحرر محمود جبارين الذي أنهى 30 عاماً في سجون الاحتلال، حيث كانت والدته تأتيه عبر كرسي متحرك لزيارته، وحين توفيت وأخبروه، صرخ في وجوههم قائلا "ليش ما حطتوها بالثلاجة لغاية ما أطلع من السجن وأحضنها وأقبل جبينها".
ما يروى هو القليل من حكايات الألم الذي يعيشه الأسير داخل الزنازين كل ثانية، ويحاول المحتل قمعهم وكسرهم بأي طريقة، لكن يبقى الأسير قويا يكسر سجانه بصلابته حتى موعد حريته.