بقلم: رشا فرحات
من غرفتها خرجت لتحضر أكواب الشاي لصديقات أختها الصغرى، تلك أختها سعاد التي تصغرها بستة عشر عاما، تجلس مع صديقاتها لتحتفل بدخولها إلى الجامعة، تنظر إليهن بطرف عينيها، تضع يدها على خدها متفرجة بتركيز بالغ، تتأمل تفاصيل الفتيات الجالسات، تتلمس الحياة الخارجة من ضحكاتهن المرتفعة، ثيابهن الجميلة، وجوههن الصافية المتزينة، جلساتهن الرقيقة، وأحاديثهن الشيقة، ونغمات أصواتهن التي لا تخلو من افتعال متعمد، فتبدو لكل منهن رقة وغنجا يميزها عن الأخريات، لافتة نظر النساء الجالسات والباحثان عن عرائس لأبنائهن.
تتلاحق في ذهنها ذكريات السنوات السابقة، منذ عشر سنوات وهي تنظر إلى أخواتها يكبرن يوما تلو اليوم، ويتحولن من شكل إلى أخر، يلبسن ألوانا مختلفة، وتتلون حياتهن بلون ما يلبسن، وهي ما زالت واقفة على حافة طريق مدرستها التي تركتها قبل أن تتجاوز الصف الخامس، فعلى حد قول أمها، أنها غلبانه، لم تستطع حتى أن تفك خطاً لتكتب اسمها، بينما يصرح والدها بأنه أخرجها من مدرستها لتعين والدتها في خدمة أخوتها الصغار وإدارة شؤون المنزل، ومنذ ذلك اليوم، وهي تحيى على فتات ما يتركه أخواتها الصغيرات، اللواتي لم يعدن صغيرات، فهي كما تقول أمها "غلبانه"، ولا تطلب كما تطلب الفتيات، ترضى بكل ما يحضرنه لها، يضحكن منها، فتظن أن ضحكاتهن لها.
تذكرت شعرها الطويل الذي قص كشعر ولد صغير علاجاً له من القمل الذي لم يفارقه منذ الصغر، تضحك لأنها لم تستمع يوماً لنصائح أمها حينما قالت لها كفي عن احتضان الفتيات في صفك، فهن من نقلن إليك عدوى القمل" لكنها كانت تحب صديقاتها ولا تشبع من احتضانهن بقوة، هي عادتها كلما أحبت أحداً.
تكتم ضحكتها، وتخفي وجهها بيدها، وتتخيل أحلامها صغيرة، بثوب أبيض وطرحة منسوجة من قماش متهرئ، فلم تتعود أن تلبس جديداً، وزغاريد وفرحة في الهواء تطلق لأجلها حينما يستبدل القدر ملامحها بملامح عروس فرحة، وعقل إنسانة تستطيع أن تقرأ تلك القصص الملونة الجميلة التي يحملها ابن أختها في حقيبته، كلما أتى لزيارتهم، تحلم بأن يتحول كل ما تتمناه إلى حقيقة، جامعة، دروس، وقلم تكتب فيه اسمها لأول مرة على لوح أخضر، ومعلمة تعنفها لخطئها في رص الحروف، وصديقات يضحكن منها فتنتقم في الحصة التالية. ثم تسير بقدميها الطفولية إلى حيث تعرض تلك الفساتين الملونة، على زجاج محلات الحي المجاور.
ويأتي العيد وتلبس للمرة الأولى ثوباً مزركشا بحبات كرز حمراء، كذلك الثوب الذي اشترته أمها لأختها فاطمة حينما نجحت في الثانوية العامة..
تؤلمها الذكريات، تنظر إلى جسدها الذي بات نحيلا أكثر من اللازم، تبتسم فرحة لثوب عتيق أعطتها إياه أختها قبل يومين، جميل جداً على الرغم من أنه موشوم ببقع متفرقة يصعب إزالتها، لكنها حاولت غسله قدر استطاعتها، قبل أن تضطر لارتداء ثوباً باهت الألوان بظلال بقع أقنعت نفسها أنها لا تظهر لمن يراها، صففت شعرها، وحاولت قدر الإمكان أن تصبغ وجهها كما تفعل الفتيات، لعل إحداهن تعجب بزينتها فتتقرب إليها بسؤال أو كلمة إطراء، فلم تجد أحدا ينظر إليها نظرة حتى من باب العطف أو الصدقة، إلا بعض ابتسامات خفيه على شفاه أولئك الفتيات الجالسات إلى جوار أختها والتي لا تفهم لهن لغة أو إشارة، فقد بدت مختلفة عنهن كثيرا، وأمها تمنعها دوما من مشاركة أختها في الحديث أو الخروج معها إلى حيث تذهب، بل تمنع حتى من الاقتراب من مجلس النساء، وتتفرج كعادتها من بعيد، وهي لا تعلم لماذا؟!!
يأتيها أخيرا صوت أمها التي حدقت في وجهها شاهقة بغضب ساحبة يدها بخجل من أمام النساء الجالسات طالبة منها الذهاب لغسل وجهها صارخة باستغراب:
اذهبي واغسلي تلك الألوان المختلطة على وجهك، تبدين تماما "كالأراجوز"
تدير تلك الأم ظهرها وهي محدقة في وجه ابنتها الملون، بعينين تأمرانها بالتنفيذ دون نقاش، فتنصاع لأمرها وتذهب.
تبلل وجهها بماء دافئ فتتساقط الألوان مختلطة بدموع لم تستطع التعود عليها، وترجع مكانها حيث ذلك المقعد الذي حفظت أرجله بصمات صمتها، تفتعل ضحكة مجبرة وتحلق بخيالاتها من جديد.