غزة- فادي الحسني
كالعصفورة تهدهد دفترها المهترئ .. تقلب صفحاته كما لو أنها تحتضن كنزاً ثميناً صنعته يداها النحيفتان. تلملم افكارها بين الحين والآخر لتنظم شعراً وخواطر تحكي عن مآسي الوطن المحتل وحكايات الاطفال الميتمين بفعل آلة القتل (الإسرائيلية).
سلام ابو أحمد طفلة، كصغار غزة، تعيش تحت وقع القصف والحصار، لكنها تختلف عن كثير منهم في فطنتها ونباهتها... تقول على سبيل الدعابة "بلقطها وهي طايرة"، لذا فهي تكتب الآهات بصورة شعر وتحكي عن الألم الساكن في عيون الأطفال بقلم رصاص ذي ممحاة متآكلة.
الطفلة سلام ذات الأحد عشر ربيعاً، تمتلك موهبة الكتابة، ويصح وصفها بأصغر كاتبة في قطاع غزة الذي عاش أهله حربا ضروسا عام 2008 وهو نفس العام الذي خرجت فيه موهبتها للنور، حينما كانت في الفصل الثالث الابتدائي.
طريقة حديثها تشعر محاورها بأنها شابة عشرينية، لكن ملامحها البريئة تحكي عكس ذلك، وبخاصة أن ضحكاتها تكشف ضروسا صغيرة حديثة التبديل.
ترتدي الطفلة معطفاً رمادياً بلون أجواء غزة الشتوية الغائمة، تعصر طرفيه على وسطها لتقي نفسها من البرد القارس، وتقول إنها اكتشفت نفسها فجأة، حين راودتها فكرة الكتابة بلغة شعرية ذات مساء شتوي يحمل معه صور الصغار الذين يتموا بفعل الحرب.
حنينها لبلدها "اسدود" الذي هجر منه اجدادها إبان نكبة عام 1948، يكسر قاعدة "ديفيد بن غوريون" رئيس وزراء (إسرائيل) الأسبق التي قال فيها (الكبار يموتون والصغار ينسون).
تقول سلام :"لا أحد يستطيع أن ينسى بلده الأصلي (..) صحيح أننا مرتبطون بغزة ارتباطاً وثيقاً ولكن البلد التي هجر منها اجدادي تدعونا للسعي لاستردادها، لكن هذا لن يأتي إلا بالوحدة الوطنية".
تستشهد الطفلة ببيت شعري تحفظه منذ سنوات الدراسة الاولى، للتأكيد على ضرورة العودة للوطن الأصل، قائلة (كَـمْ مَنْـزِلٍ فِي الأَرْضِ يَأْلَفُهُ الفَتَـى ... وحَـنِينُــهُ أَبَــداً لأَوَّلِ مَنْــزِلِ).
تسجل الطفلة ذات الوجه القمحي والصوت الحنون اعتراضها على الانقسام السياسي الحاصل في الأراضي الفلسطينية، ورغم انها لا تفقه في السياسة لكنها قالت: "إن ما يعيق المصالحة هو عدم توفر النوايا الحقيقية".
لا تهوى الطفلة الموهبة الكتابة عن الانقسام، وما يدلل على ذلك دفترها الملبد بالقصائد التي تروي قصص المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وقالت: "الانقسام ليس محل اهتمام بالنسبة لي، فأنا اركز في الكتابة على الطفل والاحتلال والمعاناة، ولكن لدي توجه بأن أكتب قصيدة استهزاء تحكي عن النفاق السياسي الحاصل في فلسطين".
عن حياتها تقول إنها عادية كأية طفلة، تستفيق من نومها باكراً، ترتب حجرتها ثم تتناول الفطور وتعد نفسها للذهاب لمدرستها (بنات غزة الإعدادية "ب") التابعة لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين (أونروا).
ترى سلام في معلماتها أمهات لها، حيث تلقى منهن كل حب وتقدير وتشجيع على الموهبة، شأنهن في ذلك شأن أسرتها التي دوماً تحثها على مواصلة الكتابة الأدبية.
تدرس سلام في الفترة المسائية، لذا فهي تعود إلى المنزل مع غروب الشمس، وتشير إلى أنها ليست مثالاً للنظام، فقد تضع حقيبتها عند العودة في أي مكان، إلا أنها تقول "أحرص دوماً على أن أكون منضبطة ومنظمة في أعمالي وتصرفاتي".
تشيح سلام بخصلات شعرها المنسابة عن عينيها، وتوضح أنها مولعة بثلاثة شعراء فلسطينيين هم (أحمد مطر، ومحمود درويش، وتميم برغوثي)، معبرة عن أملها بأن ترتقي كتاباتها لما كتب هؤلاء الشعراء.
وتحرص سلام على مطالعة الأدب عموماً والدواوين الشعرية بشكل خاص، مبينةً أنه كان لها عدة محاولات لكتابة القصص القصيرة.
تعشق سلام الكتابة ليلاً بعد أن تراجع دروسها وترتب حقيبتها وتعد نفسها ليوم الغد، وتفيد بأن المدرسة لم تعقها في ممارسة موهبتها، حتى أنه قدر لها عدة مرات أن تنظم شعراً وهي على مقعد الدراسة.
وتستغل فترة الإجازة المدرسية بين الفصلين للمطالعة، حيث تمضي معظم وقتها في قراءة المؤلفات الأدبية، مشيرة إلى أنها طالعت سلسلة قصص (رجل المستحيل)، و(لافتات) لأحمد مطر.
تكشف الطفلة صاحبة العينين السوداوين عن أن قلمها حين يشرع في الكتابة "ينساب وحده ليخط الكلمات "وكأن الأمر إلهام" كما تقول.
لما سئلت سلام عن تقديم أية جهة طلب تبنيها كموهبة، صمتت. فلما أعدنا قراءة السؤال بصيغة أخرى :هل تبنى أحد موهبتك؟، ردت ضاحكة "افهم انك لا تقصد التبني بصفة الأبوة، ولكن بكل أسف لم يحصل ذلك، لأنني لم أنضم أصلاً لأية جهة ترعى الأدب(..) أحب أن أكون حرة".
تسعى سلام جاهدة لتصقل موهبتها بذاتها معتمدة في ذلك على شقيقتها الكبرى التي ترى فيها الموجه الأول، حيث تركض نحوها كلما كتبت شيئا لتقرأ على مسامعها ما خطت الأنامل الرفيعة، وبعدها تحظى إما بالثناء أو بالتوجيه لتصحيح مفرداتها.
لا تطمح الطفلة الموهبة، أن تمتهن مستقبلاً مهنة والدها الطبيب، ولا والدتها المعلمة، فهي تتطلع لأن تصبح صحفية صاحبة قلم وفكر مستنير، وتعيب على بعض ما يكتب في الصحف المحلية وتصفه بأنه "مجاملات" "لأنه لا يسلط الضوء على معاناة الناس" على حد قولها.
قلبت سلام دفترها في نهاية اللقاء وقرأت بعضاً مما كتبت، فكان آخر ما قرأت بنبرة حزينة:
أنا الملطخ بالدماء..
أنا عروس البحر السوداء
أنا صاحب الخطوط الحمراء
أنا صاحب القلم الذي سال بالدماء
أنا اخر صيحة في عالم العناء
أنا أول مجني عليه عنده ولاء