"إن ضعف الإيمان فينا، وتصدع بناء الأسرة، وظهور التردي الأخلاقي، ووهن أدائنا السياسي ووهن دور أحزابنا السياسية، واقتحام الإعلام الذي يربي على العنف أركان بيوتنا، وبروز الأنانية الفردية أو المؤسساتية والحزبية، وانتشار المنكر، وضمور دور المدرسة ومحدودية دور المسجد، واتساع رقعة الفراغ، وتواصل الشعور بالهزيمة، وضعف التعلق باليوم الآخر.. إن كل ذلك أضعف فينا المناعة الذاتية والترابط الاجتماعي في مواجهة العنف..". هذه الكلمات والمعاني التي تدل على فهم عميق ودقيق لثقافة العنف السائدة التي تنتاب مجتمعنا الفلسطيني في أراضي الـ 48، هي كلمات فضيلة الشيخ رائد صلاح أوردها في كتابه (المطلوب في قضية العنف: نقاش دائم نحو علاج دائم)، مع أهمية الإشارة إلى أن الشيخ رائد لم يعفِ من المسؤولية المؤسسة (الإسرائيلية) التي عملت -ولا زالت- على تغذية جرائم العنف في مجتمعنا ومدّها بالمال والسلاح ومنحها الحصانة القانونية والسياسية والأمنية، كما أن هذه المؤسسة باتت تستغل كل ذلك لتحقيق مصالحها غير المحدودة.
بحسب الشيخ رائد صلاح، فإنه من أجل علاج دائم لآفة العنف، التي أصبحت ثقافة سائدة في مجتمعنا، لا بدّ من صناعة ثقافة تواجه ثقافة العنف وتنتصر عليها، ولا بدّ لهذه الثقافة أن تكون هي السائدة وتعيد المجتمع لقيمه الأصيلة الطاهرة، ولا بدّ لهذه الثقافة أن تقوي فينا المناعة الذاتية والترابط الاجتماعي في مواجهة العنف المستفحل فينا الذي لم يترك حارة صغيرة تقريبًا إلا ودخلها وأحدث فيها الفساد والدمار المجتمعي. ومن هنا انطلق فضيلة الشيخ رائد صلاح بفكرة مشروع "إفشاء السلام"، وهو مشروع منبثق عن لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل الفلسطيني.
يمكننا القول إنَّ فكرة مشروع "إفشاء السلام" ترتكز على القيام بالدور الإصلاحي الاجتماعي والتربوي والثقافي، وهذا ما يظهر من عمل اللجنة ذاتها؛ حيث إنها تعمل دون كلل أو ملل على إقامة الندوات التوعوية لجميع شرائح المجتمع عامة وغيرها من المشروعات والجوانب الأخرى التي تصب في هذا المضمار، مع التأكيد أنني لست هنا بصدد الحديث عن عمل لجنة "إفشاء السلام" ونشاطاتها الحاضرة في مجتمعنا اليوم بقوة، بقدر ما أريد تسليط الضوء على دور هذه اللجنة الكبير بالإصلاح المجتمعي من خلال مبادرات ونشاطات وفعاليات ومشروعات وأفكار حتى تكون ثقافة السلام والتسامح هي الثقافة السائدة والمنتصرة على ثقافة العنف.
كذلك لا يفوتنا القول إنَّ التوجه الإصلاحي للشيخ رائد صلاح الذي يقف اليوم على رأس لجنة "إفشاء السلام"، خطابًا وسلوكًا وعملًا، لازمه في مسيرته السياسية والاجتماعية والدعوية التي تمتد لنحو خمسة عقود، وله البصمات الكبيرة والبارزة في العمل الإصلاحي المجتمعي من خلال الدعوات للنهضة والإصلاح، وطرح الأفكار والمبادرات والمشروعات، وإنشاء الجمعيات والمؤسسات التي تعنى بإصلاح وتقوية وتعزيز المناعة القيمية والأخلاقية والدينية الوطنية للفرد والأسرة والمجتمع، لتحقيق نوع من الاستقرار الاجتماعي يتم فيه احترام القواعد الأخلاقية السائدة في المجتمع وتحصينه من بعض المظاهر والسلوكيات الغريبة والدخيلة علينا وعلى مجتمعنا وعلى رأسها ثقافة "جائحة العنف"، كما أسماها الشيخ رائد في مقاله بعنوان (عام على مسيرة لجان إفشاء السلام). مع أهمية التنويه هنا، إلى أن الجانب الإصلاحي لمسيرة الشيخ رائد صلاح، كأحد أبرز قادة المجتمع الفلسطيني في الداخل، لم يدرس في سياقه الاجتماعي كما يجب، رغم أن لديه التاريخ الطويل من التجارب والخبرات في العمل الإصلاحي المجتمعي، حيث إنَّ معظم الدراسات يغلب عليها الطابع السياسي والاهتمام الإعلامي.
ووفقًا لما تقدم، فإنَّ فكرة مشروع لجنة "إفشاء السلام" تهدف إلى الوصول إلى قلب المشكلة وليس مجرد الالتفاف حولها، حيث يرتكز دور هذه اللجنة على الجانب الإصلاحي القيمي المجتمعي بغية صناعة ثقافة "إفشاء السلام" لتكون هي السائدة في المجتمع والمنتصرة على ثقافة العنف، وهذا لا يعني أنَّ ذلك سيكون فوريا وبكبسة زر دون أن يأخذ العلاج وقته ضمن أفق زماني ممتد عموديًا وأفقيًا، خاصة أن آفة العنف بدأت تنمو في مجتمعنا نموا كبيرا منذ أكثر من عشرين سنة. وهذا لا يعني أن تتعطل وتتوقف أدوار باقي المؤسسات والجمعيات والهيئات والأجسام واللجان في مختلف مسمياتها ومساراتها الرسمية والشعبية، لصناعة بيئة لتقليل آفة العنف قدر المستطاع وصولا إلى القضاء عليها، وهذا لا يعني أن يبخل أحد على مجتمعنا بأية فكرة من خارج الصندوق أو من داخله أو من أطرافه، إن كانت فكرة واقعية قابلة للتطبيق أو حتى فكرة كانت بالتمني والتحلي.. المهم أن يأخذ الكل دوره وأن لا يقف أحد وقفة المتفرج فقط، ولا أن يحاول التشويش بقصد أو بغير قصد على الدور الإصلاحي القيمي المجتمعي الملقى على لجنة "إفشاء السلام" والتقليل من عملها ونشاطها والجهد الكبير الذي تبذله في توظيف مختلف الشرائح المجتمعية والطاقات الشبابية وأصحاب الاختصاصات والخبرات في كافة المجالات حتى تكون ثقافة "إفشاء السلام" هي الثقافة السائدة في المجتمع والمنتصرة على ثقافة العنف التي استنزفت الكثير من الطاقات والموارد بدلًا من استثمارها في تطوير المجتمع وتحسين ظروفه في كافة النواحي والمجالات.