لا تفوت آلة البروباغندا في الكيان الصهيوني أي فرصة، فلا تقع أحداث كبرى في بلاد العرب والمسلمين إلا تتفاعل معها، وتحاول أن تقحم نفسها في المشهد، لتثبت حضورها عبر حساباتها المختلفة الرسمية وغير الرسمية، على وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها.
وذلك يأتي من معرفتهم بأهمية تلك الوسائل، ومدى تفاعل الناس في العالم العربي معها، وخصوصًا الشباب وصغار السن، فهؤلاء بالنسبة لهم يمثلون شريحة مهمة، يستهدفونها بكثافة بشعارات ملؤها الكذب والتدليس من عينة أن إسرائيل هي بلد التعايش والتسامح والديمقراطية الوحيد في الشرق الأوسط، إلى آخر هذا الهراء.
ويعتمدون في ذلك على حداثة ذاكرة الشباب العربي والمسلم، وعدم معاصرتهم لكثير من الأحداث التاريخية، في مسار الصراع (العربي/ الإسلامي) مع الكيان الصهيوني، ولذا يكثف المسؤولون آلة البروباغندا الصهيونية في استهداف تلك الفئات خصيصًا، لبث أفكارهم المسمومة بينها، في عملية يمكن وصفها بأنها غسيل أدمغة لهؤلاء، طمعًا في الوصول في يوم من الأيام إلى جيل ذي ذاكرة مشوهة.
مصائب قوم عند قوم فوائد
لدى آلة البروغاندا الصهيونية خبرة كبيرة في قلب وتزييف الحقائق وجعلها في صالحهم، كما لديهم أيضا خبرة في الاستفادة من نكبات ومصائب الآخرين، وأحدث الأمثلة على استفادتهم من نكبات ومصائب الآخرين، هي مشاركتهم في عمليات الإنقاذ الحالية بالمناطق التي ضربها الزلزال في جنوب تركيا.
وهنا قد يتوقف من يقرأ هذه السطور ويتهمني بالتحامل على الصهاينة، ويقول إن ما يقومون به عمل إنساني يجب أن نشكرهم عليه، بدلًا من توجيه الانتقاد إليهم. الحقيقية أني بغض النظر عن خبرتي مع هؤلاء ومعرفتي بنياتهم الخبيثة اتجاه كل ما هو عربي وإسلامي، كنت أتمنى أن يخيب علمي ومعرفتي بهم هذه المرة، ولكن ما رأيت من أسلوب دعائي فجّ، بواسطة آلة البروباغندا الصهيونية، جعلني أتأكد أني على حق؛ فالأمر هنا -بدون تحامل- لا يمثل دولة تحاول إبراز صداقتها لدولة أخرى، في ظل ما تمر به من كارثة إنسانية صعبة، الأمر هنا لا يعدو كونه عملية استغلالية وليست استثمارية، تبحث من خلالها آلة البروباغندا الصهيونية عن استغلال مشاركتها بالحصول على صور وفيديوهات لتسويقها لدى العالم بشكل عام، والعرب والمسلمين بشكل خاص، على أنها دولة إنسانية تقدر قيمة حياة الإنسان، وتبذل الغالي والرخيص من أجلها، خصوصًا (حياة الأطفال)، في ما يمكن تسميته استغلال مصائب القوم من أجل غسل السمعة الملوثة بالدماء، وخصوصًا دماء الأطفال، التي تركز آلة البروباغندا الصهيونية على عملية إنقاذهم.
قتل وسرقة وتنكيل
ترفع آلة البروباغندا الصهيونية خلال مشاركتها، في عمليات الإنقاذ شعار “الإنسانية فوق كل الاعتبارات” ببعثة أطلق عليها اسم “غصن الزيتون” ولا أعرف أي زيتون يمتلكه الصهاينة، فالزيتون كالأرض التي ينبت فيها معروف بأنه فلسطيني، ولنا عودة إلى هذا الاسم، ولكنا نود هنا طرح الأسئلة التالية على المسؤولين في الكيان الصهيوني: ما هو الاختلاف بين الأطفال في فلسطين والأطفال في تركيا؟ لماذا لا ترفعون شعار الإنسانية فوق كل الاعتبارات في تعاملكم مع أطفال فلسطين، وتوقفوا عمليات القتل والتنكيل الممنهج ضدهم؟
حتى لا يكون الكلام مجرد كلام نظري، أو مدفوع بالعاطفة، وحتى نضيع الفرصة على آلة البروباغندا الصهيونية، في التنصل من عملية التنكيل بالأطفال وقتلهم في فلسطين، دعونا نلقِ نظرة على الإحصائيات والأرقام المتعلقة بوضع الأطفال في فلسطين، وكيف تتعامل قوات الاحتلال معهم؛ فبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني فقد ارتقى 78 طفلًا عام 2021 شهداء 17 منهم في الضفة الغربية و61 في قطاع غزة، منهم: 26 طفلًا أعمارهم 8 سنوات أو أقل، و17 في الفئة العمرية (9-12) و20 في الفئة العمرية (13-15) سنة، و15 في الفئة العمرية (16-17) سنة. وبحسب إحصائية الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال الصادرة في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، فإن 49 طفلا استشهدوا منذ بداية عام 2022، منهم 32 طفلا في الضفة الغربية و17 في قطاع غزة. وبذلك يصل العدد الكلي للأطفال الشهداء منذ سبتمبر/ أيلول 2000 وحتى الآن إلى 2240 طفلا.
هذا فضلًا عن جريمة الاحتلال في عدم احترامه لحرمة الموت، وقيامه باحتجاز جثامين الشهداء من الأطفال، فبحسب تقارير الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء المحتجزة والكشف عن مصير المفقودين، يحتجز الاحتلال جثامين 12 طفلا، أقدمهم جثمان الشهيد محمد الطرايرة الذي استشهد عام 2016، ويحكي والده ناصر الطرايرة قائلًا: “قتلوه بدم بارد، وبشكل بشع، بعد أن سيطروا عليه، فقد اخترق الرصاص عدة أنحاء من جسده، كان جبينه مهشّمًا، ولم يسمحوا لي حتى بتقبيله قبلة الوداع”. وكذلك يحتجز الاحتلال جثمان الشهيد يوسف صبح (15 عاما)، وهو أصغر الشهداء المحتجزة جثامينهم حتى اللحظة لدى قوات الاحتلال، وقد قتلته قوات الاحتلال أثناء اقتحامها لقريته برقين، ويوسف هو الولد الوحيد بين أربع بنات، كانت تحلم أمه بأن تزفه عريسًا في يوم من الأيام، ولكن صارت كل أمانيها في الحصول على جسده لتزفه شهيدًا، وتقول والدته السيدة رجاء حثناوي “إن الأم الفلسطينية حوصرت أحلامها، في فلسطين تُقتل الأحلام مع كل قطرة دم تسيل من أجساد الشهداء”.
ولم يتوقف الأمر عند قيام الاحتلال باحتجاز جثامين الشهداء، بل وصل إلى سرقة أعضائهم، وذلك حسب التقرير الصادر عن وزارة الأعلام الفلسطينية، في أبريل/نيسان 2022، الذي اتهمت فيه سلطات الاحتلال، بسرقة أعضاء جثامين الشهداء المحتجزة لديها، مشيرة إلى أن الاحتلال دأب على هذه الممارسات منذ عام 1948، فالاحتلال الإسرائيلي يحتجز جثامين 105 شهداء في الثلاجات و256 شهيدًا في مقابر الأرقام، بينهم 9 أطفال و3 شهيدات و8 أسرى أمضوا مددًا مختلفة في سجون الاحتلال.
ولا يمكن مغادرة هذه الفقرة من دون ذكر ذلك الطفل البريء “ريان الفلسطيني” صاحب السنوات السبع الذي استشهد في سبتمبر/ أيلول 2022، نتيجة لتوقف قلبه من الخوف، بعد مطاردة جنود الاحتلال المدججين بالأسلحة له من دون سبب، ولم يتركوه إلا بعد أن تأكدوا أنه أصبح جثة هامدة.
الخلاصة
أي بلد يمر بكارثة كبرى كالتي تمر بها تركيا حاليًّا، لا يمكن أن يرفض المساعدة من أي طرف، لأن كل همه هو إنقاذ مواطنيه العالقين تحت الركام والدمار، ولكن يجب علينا نحن أن نبقي عقولنا يقظة وأعيننا مفتوحة، لمراقبة سلوك العدو وحرمانه من استغلال تلك اللحظة، لتسريب رسائل مغلوطة يضلل من خلالها الرأي العام العالمي والعربي، ويصوّر نفسه على أنه منقذ محب للإنسانية، وخصوصًا الأطفال، فجرائم الاحتلال في حق الأطفال لا تعد ولا تحصى، وما تم ذكره في المقال هنا هو قطرة في بحر جرائم الاحتلال في حق الفلسطينيين عمومًا والأطفال منهم خصوصًا.
ما تقوم به آلة البروباغندا الصهيونية في تغطيتها لنشاط، بعثتها في عمليات الإنقاذ بجنوب تركيا، يمكن وصفه بأنه محاولة لغسيل السمعة والأيدي الملوثة بالدماء من خلال كوارث ومصائب الغير.
المصدر : الجزيرة مباشر