قائمة الموقع

مقال: الرحيل

2011-01-31T09:27:00+02:00

وأخيرا.. بدأ عِقْد أنظمة القمع والاستبداد في الانفراط بعد أن طال أمد تجبّرها وسلبها لإرادة وكرامة مواطنيها عقودا من الزمن.

كما سلفه التونسي بن علي، لم يعد لمبارك ونظامه موطئ قدم في أفئدة المصريين الذين خرجوا بعفوية كاملة ضد نظامهم الحاكم الذي غرّه طول صبر شعبه معتقدا أنه يشكل استثناء عن قاعدة التغيير وعاصفة الثورة البيضاء التي بدأت في اجتياح المنطقة العربية.

فُجع نظام مبارك بهبّة الشعب المصري الأبيّ، فقد اعتقد –كما غيره من الأنظمة- أن الشعب قد دان لهيمنته ورضخ لكلمته، ولم يأتِ على مخيلته أن حراكا جادا في طول وعرض مصر قد يُخرج الأمور عن نطاق سيطرته يوما، وخصوصا بعد أن بنى مؤسسة أمنية ضخمة قوامها مليوني عنصر أمني ممن طغوا في البلاد وساموا شعب مصر سوء العذاب. 

عبثا يحاول مبارك إبقاء نظامه المتبدد عبر إعادة تبادل المواقع وتوزيع الأدوار أو "إعادة ترتيب الأوراق" على رأي الأمريكيين، فقد قطعت سيناريوهاته الحالمة المرسومة لتوريث نجله (جمال) شوطا بعيدا، ومن الاستحالة بمكان إدارة الظهر لها بكل سهولة أو الانصياع لإرادة الشعب والجماهير التي ترمي إلى هدم نظام عمره ثلاثة عقود، ويشكل امتدادا لنظام السادات الذي عاش عقدا آخر، ما يعني أن ثورة المصريين الراهنة قلبت ظهر المجن لأربعة عقود من القهر والاستبداد رغما عن الهامش الديمقراطي المزعوم الذي تزين به النظام المصري شعارا فارغا من أي مضمون حقيقي.

ما يجري في مصر خطير بكل المقاييس، فالوضع في مصر ليس كما هو في تونس أو غيرها، بحكم الوزن السياسي والاستراتيجي الذي تمثله مصر عربيا وإقليميا، وموقع النظام المصري الحالي في إطار المنظومة الإقليمية والدولية القائمة.

لذا لنا أن نتوقع عبثا وتدخلا خارجيا كبيرا في تفاصيل المشهد المصري الراهن، ويبدو أن الإدارة الأمريكية قد رسمت خطة لما بعد مبارك، وأعدت بدائل تتناسب وسياستها وأجندتها المعروفة، وما لم تتكاتف القوى السياسية والشعبية المصرية وتعي حقيقة المخطط الخارجي الالتفافي فإن ثورتها سوف تتعرض للقرصنة المفضوحة والسرقة المكشوفة في وضح النهار.

ثورة الغضب والتغيير ستطال معظم الأنظمة العربية لا محالة، عاجلا أم آجلا، ما لم تتدارك ذاتها فورا وتباشر إصلاحات جوهرية وتغييرات جذرية في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد انتفضت الشعوب وخرجت من قمقمها الذي غيّبها عن واقع الأحداث طيلة المراحل الماضية، وآن للأنظمة أن تستدرك وتلتحم مع شعوبها قبل فوات الأوان.

مشهد التغيير العربي المتفاعل حاليا يعطي دروسا بليغة للغاية: أن الأنظمة الاستبدادية أشبه ما تكون بـ"نمر من ورق"، وأنه مهما تقنّعت بالديمقراطية الزائفة وتدثرت بالانفتاح المزعوم فإنها تبقى هشة متهالكة من الداخل رغم ما يتراءى من تماسك مظهرها وهيكلها الخارجي، وسرعان ما تهوي تحت مطارق إرادة التغيير التي تُوقد شعلتها الشعوب الحرة في اللحظة الحاسمة.

مشهد الرحيل سوف يشكل هاجسا مفجعا للكثير من القادة والمسئولين العرب، وكابوسا مزعجا يظلل تفاصيل حياتهم، وسيبقى شبحا مخيفا يلاحقهم في نومهم ويقظتهم، أينما حلوا أو ارتحلوا، إلى أن يرعووا ويفيئوا إلى أحضان شعوبهم، أو تنال منهم يد الثورة والقصاص.    

اخبار ذات صلة