على هذه الأرض المباركة سار الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لاستلام مفاتيح القدس المباركة من صفرونيوس بطريرك الروم، ثمّ لمّا وقف الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورآه البطريرك، تقدم منه البطريرك وسلّمه مفاتيح القدس المباركة وبكى، ولمّا سأله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن سبب بكائه، قال له البطريرك بوضوح لا تلعثم فيه: لا أبكي على ضياع ملكنا، بل أبكي لأنّ ملككم لهذه الأرض المباركة سيبقى أبد الدهر، يرق ولا ينقطع!! فأين داست قدما الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصل القدس المباركة؟! هل داست على تراب أم- الفحم أم على تراب يافا واللد والرملة؟! أم على تراب عكا وحيفا والناصرة؟! وما هو المسار الجغرافي الذي مشاه وقاده إلى القدس المباركة؟! وهل كان مساره على امتداد ساحل الأرض المباركة؟! أم كان مساره على امتداد رمال النقب ثمّ انتقل إلى الأكناف المحاذية للقدس المباركة؟!
تصوّروا لو أننا أتعبنا أنفسنا وعدنا إلى مراجعنا التاريخية الثّقة، ثمّ عرفنا منها الجواب الواضح على كل هذه الأسئلة، ثمّ تصورا لو أننا رسمنا على ضوء هذا الجواب خارطة لمسار الخليفة عمر بن الخطاب، ثمَّ أنزلناها على أرض الواقع كما هو حال أرضنا المباركة اليوم، ثمَّ أطلقنا على هذا المسار “المسار العمري” للوصول إلى القدس المباركة، ثمَّ تصوّروا لو قمنا بإعداد فيلم وثائقي عن هذا المسار العمري ووزّعناه على أوسع مدى، حتى يكون في متناول كل أجيالنا بعامة وجيل الشباب بخاصة، ثمَّ تصوّروا لو بدأنا ننظّم مسيرة علمية شعبية كل عام إحياءً لذكرى فتح الخليفة عمر رضي الله عنه للقدس المباركة وفق تاريخها السّنويّ المدوّن في مراجعنا التاريخية الثقة.
لو قمنا بذلك لاستنطقنا التاريخ، ولنطق التاريخ، ولأصبحت هذه الذكرى حية في وجداننا كأنّها تقع الآن، ولتداركنا حالة الوهن المعيبة التي باتت تميز علاقتنا مع تاريخنا. لا سيّما ونحن مجمعون أنّه لا يمكن لأمة أن تبني حاضرها إذا لم تتمسك بتاريخها، ولا يمكن لها أن تنهض بواقعها إذا لم تتزود بالحنين الواعي الحي إلى تاريخها، ولا يمكن لها أن تشفى من مرض فتورها والعجز وقلة الحيلة في مسيرتها إذا لم تجدد عهد الوفاء والتواصل مع أعلام تاريخها، ولا يمكن لها أن تحسن الإعداد لمستقبلها إذا لم تقم بكل ذلك.
وإلا هل رأيتم شجرة باسقة خضراء ومثمرة إذا لم يكن لها جذور في الأرض أطول من ساقها فوق الأرض؟! وهل رأيتم بنيانًا مرصوصًا يناطح السحاب بدون أساسات عملاقة ومتينة ضاربة في الأرض لهذا البنيان، تمدّه بالبقاء، وتمدّه بالصمود، وتمدّه بالشموخ في وجه الزعازع والأنواء. وهل رأيتم غيثًا منهمرًا طيبًا يسقي الأرض والزرع والضرع- بإذن الله تعالى- بلا غيوم خير ورياح لواقح ولمع برق مبشر وقعقعة رعد معتبر. فيا لتعسنا إذا أردنا لأنفسنا وشعبنا أن نكون بخلاف سنن الله في الكون والحياة والأنفس والآفاق، بمعنى يا لتعسنا إذا أردنا بناء حاضر كريم لنا إذا لم نكن على علاقة كريمة مع تاريخنا، ويا لتعسنا إذا طمعنا باستشراف مستقبلنا دون أن نحسن قراءة حاضرنا واستلهام المدد من تاريخنا. وكم صدق الحكيم فينا عندما قال: من لا أصل له فلا وصل له.
لكل ذلك، نحن مطالبون أن نستنطق التاريخ، وأن نستنطق الجدلية المباركة بين تاريخنا المبارك وأرضنا المباركة. وفي المسار العُمريّ لفتح القدس المباركة خير نموذج، وهو ما كنّا ولا زلنا نبغي من أجل استنطاق التاريخ. ثمَّ كلنا نعلم أنَّ على أرضنا المباركة جرى جواد بفارسه السلطان صلاح الدين، وتنقل هذا الجواد بفارسه بين يافا وعكا وشفا-عمرو وحطين وصولًا إلى القدس المباركة، وصهل هذا الجواد في كل هذه المواقع في وجه الصليبيين وأساطيلهم وملوكهم وعددهم وعتادهم، وأدلج هذا الجواد بفارسه من نصر إلى نصر، ومن فتح إلى فتح، ومن يسر إلى يسر، ومن فرج إلى فرج، ومن بشرى إلى بشرى، حتى قيل: يا بشرى اللاجئين المشردين المظلومين، لقد حرر السلطان صلاح الدين القدس المباركة، وهكذا فتحها الخليفة عمر رضي الله عنه وحررها السلطان صلاح الدين، فتصوروا لو أتعبنا أنفسنا وعدنا إلى مراجعنا التاريخية الثقة ورسمنا المسار التاريخي الذي جرى فيه ذلك الجواد بفارسه السلطان صلاح الدين، بين يافا وعكا، وبين عكا وشفا-عمرو، وبين شفا-عمرو والمشهد، وبين المشهد وحطين، وبين حطين والقدس المباركة.
ثمّ تصوروا لو أنزلنا هذا المسار على أرض الواقع كما هو حال أرضنا المباركة اليوم، ثمَّ أطلقنا على هذا المسار “المسار الصلاحي للوصول إلى القدس المباركة”، ثمّ تصوروا لو أعددنا فيلمًا وثائقيًا عن هذا المسار الصلاحي، شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، ثمَّ قمنا بتوزيع هذا الفيلم الوثائقي على أوسع مدى، ثمَّ واظبنا كل عام على إحياء هذا المسار الصلاحي وفق تاريخه المعروف متنقلين على الخيول في مسيرة علمية شعبية تنطلق من بداية هذا المسار الصلاحي، ثمَّ تقف عند كل محطاته، وصولًا إلى القدس المباركة.
لو قمنا بذلك وفق منهج ثقافي علمي لاستنطقنا التاريخ، ولنطق التاريخ ولأصبحت هذه الذكرى كأنها رؤيا عين نراها ونلمسها بحواسنا وتخفق لها قلوبنا وتتفاعل معها مشاعرنا، ولعزّزنا عقد التواصل الحي مع كل ذرة مباركة، ومع كل بقعة مباركة، ومع كل مَعلَم مبارك من أرضنا المباركة، ولعدنا نشمُّ رائحة أرضنا المباركة كأننا لم نعرفها من قبل. وكلنا نعلم أنه بين فاتح القدس المباركة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبين محررها السلطان صلاح الدين الأيوبي، تباركت أرضنا المباركة عندما داس على أديمها خالد بن الوليد وأبو عبيدة عامر بن الجراح ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، عندما أوكل إليهم الفاروق عمر رضي الله عنه فتح بلاد الشام، فترك كل منهم مساره التاريخي الذي مشى فيه فأوصله إلى دمشق أو حلب أو حمص بداية من أرضنا المباركة.
ثمّ تباركت أرضنا المباركة عندما داس على أديمها السلطان قطز الذي أكرمه الله تعالى وأنقذ أهل العالم القديم عندما كسر شوكة التتار على سهل عين جالوت الذي هو كنف مبارك من أكناف أرضنا المباركة، فتصوروا لو رسمنا المسار التاريخي الذي مشاه كل علم من هؤلاء الأعلام، ثمّ أنزلنا هذا المسار التاريخي على أرض الواقع كما هو حال أرضنا المباركة، ثمّ أعددنا فيلمًا وثائقيًا عن كل مسار من هذه المسارات ثمَّ وزعنا هذه الأفلام على أوسع مدى، وجعلناها في متناول أيدي الجميع، ثمَّ قمنا بمسيرات سنوية تقتفي آثار مسيرة كل علم من هؤلاء الأعلام. لو أتقنا كل ذلك لاستنطقنا التاريخ، ولنطق التاريخ كيّما يقوّي لحمة الحال والمآل مع أرضنا المباركة. ثمَّ ماذا؟! بقي أن أؤكد أن ما أوردته من أعلام ما هي إلا نماذج من قائمة طويلة تضم عشرات الآلاف من هؤلاء النجوم الزاهرة، ولا تزال تزداد هذه القائمة مع الأيام، وستبقى في زيادة حتى قيام الساعة، وإنَّ رسم هذه المسارات لهؤلاء الأعلام ثمَّ إسقاطها على أرض الواقع، ثمَّ القيام بمسيرات سنوية خلف آثارهم في هذه المسارات، هو أبسط مظهر وفاء مع هؤلاء الأعلام.