لمى خاطر
ثمة طرفة يتم تداولها بين النخب المثقفة تقول إن البند الأول من خطة الجزيرة الإعلامية لعام 2011 هي إسقاط عروش الأنظمة المستبدة في العالم العربي، وأخرى تقول إن النظام التالي المرشح للسقوط هو ذاك الذي تحدده فضائية الجزيرة.
وإن كان هناك شيء من المبالغة هنا في تصوير دور فضائية الجزيرة في ثورة الشارع العربي، إلا أن الحقيقة التي لا أجد فيها أية مبالغة هي أن ربيع الحرية العربية إنما كان ثمرة لحملة الوعي النوعية التي قادتها فضائية الجزيرة منذ نشأتها، وصار بموجبها العربي مدركاً لأسباب أزمته وأبعادها، وملماً بحقيقة أنظمته وطبيعة ارتباطاتها الخارجية المشبوهة، وتنكرها لحقوق مواطنيها ولقضايا الأمة المصيرية، وكيف أنها ظلت على مر عقود من الزمن تمارس عملية قتل بطيئة للعربي في ضميره وعزيمته ومروءته، لقاء استمرار هيمنتها عليه من جهة، وسلخه عن قضايا أمته من جهة أخرى!
ولذلك كان متوقعاً أن تتفتق (عبقرية) النظام المصري الآيل للسقوط عن خطة تعتيم إعلامي كاملة، وأن تنتقم من فضائية الجزيرة بحجب بثها وإغلاق مكاتبها في مصر وسحب اعتماد مراسليها، وهي بطبيعة الحال لا ترمي فقط للتعتيم على الحقيقة التي تتفاعل في الميدان باتجاهات عدة، بل كذلك لمعاقبة الجزيرة على دورها في (تثوير) الجمهور وتبصيره بحقوقه وتقديم المعلومة له خالصة من شوائب الإعلام الاعتلالي المتخصص في إجهاض الثورات وإلقاء الوهن في نفوس الجمهور وتشويه الحقائق وخلط حابلها بنابلها.
أستغرب حقاً كيف أن هذه النظم الفاشلة وإعلامها البائس ما زالت تجدّف عكس التيار وتحسب أن صوت إعلامها الموجه يمكن أن يصل للجمهور أو يحظى بتصديقه أو اكتراثه، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إن نسبة مشاهدة الجزيرة بين الشعوب العربية قاطبة تتجاوز التسعين بالمئة، وإن الإعلام الرسمي لا يتابعه حتى المحسوبون على النظام من السياسيين وزبانيتهم ومنتفعيهم!
لكن ثمة ظاهرة باتت تتجلى على بعض الشاشات السوداء، ويستطيع أن يدرك أبعادها المتابع للإعلام المصري شبه الرسمي هذه الأيام ولإعلام الأنظمة الموالية له، وهي أنها انتهجت سياسة اللعب المكشوف على الحبلين، فهي من جهة تغازل ما تسميه بالشباب البريء الطاهر الذي خرج مطالباً بحقوقه وبشكل سلمي حضاري، على حدّ تعبيرها، ومن جهة أخرى تضخ كذباً موجهاً تجاه ما تسميه محاولات الأحزاب الانتهازية ركوب موجة الجمهور وتوظيفها لخدمة أجندة غير وطنية! ولسنا ندري كيف للغارق في وحل الارتهان لإرادة الخارج أن يرمي غيره بالتهمة ذاتها أو يدعي مثلاً أن هناك خبراء في تنظيم الاحتجاجات دربتهم أمريكا وأرسلتهم لمصر! فهذه ولا شك فرية سخيفة إلى أبعد حدّ، ومطلقوها كانوا يراهنون على أن الجماهير ما زالت تحكمها العاطفة الغبية وأنها تصدّق كل ما تطلقه أبواق الإعلام المرئي والمكتوب، ولعل هتافات وشعارات المتظاهرين الموجهة لإعلام النظام المصري بصحافته وفضائياته والساخرة منه لم تصل إلى مسامعهم بعد. فالناس لم تنسَ بعد ملامح جوقة الردح التابعة للنظام وما زالت تذكر صولاتها غير المباركة ضد غزة وحماس وحزب الله، ودفاعها عن الحصار والجدار الفولاذي، وترديدها أسطوانة الأمن القومي المزعوم، ولن يشفع لها اليوم انحيازها المنافق نحو مطالب الثائرين ومحاولاتها في الوقت ذاته دق الأسافين بين صفوفه، فنجدها تارة تحذّر من الإسلاميين، رغم أنهم كانوا أبرز ضحايا النظام وأول من حمل راية التغيير منذ عقود، ونجدها تارة أخرى تحذّر من البديل وتتباكى على الأمان الذي ذهبت به الثورة، وتلوّح بفزاعة الفراغ السياسي والأمني!
هذه السياسة الجديدة الذي ينتهجها الإعلام الرسمي ومتعلقاته في مصر وغيرها ليست سوى رؤية خبيثة ترمي لامتصاص غضبة الجمهور بأساليب الفهلوة ومسايرة غضبة الشعب على أمل تحجيم ثورته وسقف مطالبه قدر الإمكان، لكن وعي الجمهور كان مفاجئاً لكل من راهنوا على بساطته وإمكانية التلاعب به، وكما وجدنا هذا الوعي مدركاً أبعاد إشاعة الفوضى في الميدان، ورافضاً التعاطي بإيجابية مع تنازلات النظام الشكلية ووعوده المكشوفة، فسنجده دون شك متجاوزاً السياسات الإعلامية الموجهة، ومبصراً الفرق بين الإعلام المهني النزيه، وبين ذاك المغرض والمكرس لإطالة عمر الأنظمة المستبدة حتى لو اجتهد في مداراة نواياه، ومغازلة الثائرين بمعسول الكلام.
لفضائية الجزيرة كل التحية على دورها الريادي في تقديم وجبات الوعي الفكري والسياسي للجمهور العربي، ولإنارتها طريق الحرية والخلاص للسالكين، ولتمسكها بمصداقيتها ونزاهتها رغم استعار الهجمة عليها من النظم الرسمية، ولن نقول للإعلام المضاد وأبواقه بعد كساد بضاعتهم: اللهم لا شماتة، بل نقول لهم: إننا شامتون بكم بعد افتضاح تدليسكم وانفضاض السامعين من حولكم، وبعد سقوطكم المدوي في اختبار توجيه الوعي والتأثير في الرأي العام، وكل ثورة وأنتم بانتكاسة جديدة!