فجر الثالث من نيسان عام 2002، حاصرت عشرات الدبابات وآليات جيش الاحتلال (الإسرائيلي) مخيم جنين شمالي الضفة الغربية المحتلة، والذي لا تتعدى مساحته نصف كيلومتر مربع.
واعتبرت معركة مخيم جنين (1-12 نيسان 2002) من أبرز محطات الصمود والانتصار في التاريخ الفلسطيني المعاصر، ودشنت لأول مرة نموذجًا للانتصار على، إذ كانت معركة جنين التجربة العسكرية الفريدة، وتكاد تكون الأولى في تاريخ الانتصارات الفلسطينية من داخل فلسطين المحتلة.
عملية عسكرية واسعة
فرض جيش الاحتلال طوقًا عسكريًا على المنطقة سهولها وجبالها وطرقها الرئيسية والفرعية، واجتاح مدينة جنين، وطوّقت آلياته المخيم من جميع الجهات، مدعومة بالطائرات المروحية، وآلاف الجنود المشاة الذين كانوا يتهيئون للمعركة، في أرجاء المخيم الصغير بمساحته، الكبير بفعله وتأثيره
جاء حصار مخيم جنين، ضمن العملية العسكرية التي أعلنها رئيس وزراء الاحتلال آنذاك أرئيل شارون وأطلق عليها "السور الواقي"، والتي انطلقت بعد تصاعد انتفاضة الأقصى ضد الاحتلال بالإضافة إلى اشتداد وتيرة العمليات الاستشهادية.
ولم يكن اختيار مخيم جنين ليكون ساحة المعركة الأشرس التي خاضتها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد المقاومة الفلسطينية مطلع انتفاضة الأقصى جزافا، فقد أدرك المحتل أن كل حجر داخل المخيم يقف استشهاديا ينتظر لحظة الانفجار في وجه جنود الاحتلال.
استعداد وغرفة مشتركة
شكلت "غرفة المقاومة المشتركة" في جنين تجربة من أهم التجارب العسكريّة المشتركة خلال الانتفاضة الثانية، وعلى الرغم من أنّ هذا النموذج لم يأخذ حقّه في الدراسة والبناء عليه، كان العمل المشترك السِّمةَ الأبرز للأداء القتاليّ في جنين، إذ تجمّع المقاومون تحت هيئةٍ قياديّةٍ مشتركةٍ.
وضمّت الهيئة القيادية المشتركة: محمود طوالبة من "الجهاد الإسلامي"، وجمال أبو الهيجا من "حماس"، وجمال حويل من "كتائب شهداء الأقصى"، وعلي ريحان "أبو جندل" من جهاز الأمن الوطني والأجهزة الأمنية، وحسب بعض الروايات فإنّه وقبل حصول المعركة اجتمع قادة "فتح" و"حماس" و"الجهاد" واتّفقوا على تفعيل العمل المشترك لاعتقادهم بحتمية اقتحام جنين، نظرًا لكونها مركز ثقلٍ فدائيٍّ خلال الانتفاضة، وأنّ اجتياحها مسألة وقت.
وعلى الرغم من الفارق المهول في التسليح، فمقابل الأسلحة الخفيفة، والعبوات البدائيّة، كانت هناك عشرات المدرعات، وكتيبة من جنود جيش الاحتلال (الإسرائيلي)، إلا أنّ الأداءَ العسكريّ كان مميّزًا، يعود ذلك في المقام الأوّل إلى التنسيق وتوزيع الجهد والقتال المشترك، وكان من الطبيعي وجود المقاتلين من كافة الفصائل في مجموعات مشتركة.
معركة شرسة
اجتاحت آلة الدمار العسكرية التابعة للاحتلال المخيم، بشكل شامل وواسع، وذلك بعد رفض المقاومون تسليم أنفسهم والخروج من المخيم، بل واجهوا أي محاولة لدخول آليات الاحتلال بالمقاومة العنيفة.
وبعد فشل الاحتلال الذريع في تحقيق هدفه الذي جاء من أجله، وهو تدمير روح المقاومة والصمود، توغلت الآليات العسكرية وسط المنازل وهدمتها على رؤوس أصحابها.
وتدخلت طائرات الاحتلال لدك المخيم، الذي يسكنه ما يقارب من 14 ألف لاجئ، 47% منهم تقريبًا إما دون الخامسة عشرة أو فوق الخامسة والستين من العمر، لاحقهم المحتل حتى بعد أن أخرجهم من أرضهم بغير حق قبل أكثر من 50 عامًا.
وأرغم صمود عناصر المقاومة خلال الاجتياح في حينه، قيادة جيش الاحتلال على تبديل وحداتها المقاتلة ثلاث مرّات، دون أن ينال ذلك من ثبات المقاومين، أو يؤدي إلى أي إنجاز يُحسب للقوة الإسرائيلية المُقتحمة، ما حدا بالاحتلال استعمال الدبابات والبلدوزرات الضخمة في هدم المنازل بهدف التقدّم صوب وسط المخيم.
المقاومة الشرسة التي جوبهت بها قوات الاحتلال المُقتحمة للمخيم آنذاك، أسفرت عن مقتل 29 جنديًا وضابطًا إسرائيليًا، واستشهاد 58 مواطنًا بينهم 23 مقاومًا.
وهدم وتضرر نحو 1200 منزل، واعتقال العشرات، بينهم من لا يزال معتقلًا للآن، ويقضي حكمًا بالسجن المؤبد، وشردت حوالي 450 أسرة، بعد أن حرمها الاحتلال من مأوى تلجأ إليه، وقدرت قيمة الدمار الذي لحق بالممتلكات العامة والخاصة، بنحو 27 مليون دولار أمريكي، كما ورد في تقرير الأمم المتحدة.
وحدة مشرفة
وكان مخيم جنين أحد أهم الأهداف المهمة لما يمثله من عقبة حقيقية لفرض الأمن الذي يحلم به الاحتلال بوقف العمليات الفدائية التي كانت في الغالب تخرج منه.
ولم يستطع الاحتلال إيقاف العمليات الاستشهادية والمقاومة حتى بعد أن دمر المخيم وقتل وأسر من فيه، وشكل المخيم نموذجًا مقاومًا مهمًا في تاريخ الصراع رغم إجرام الاحتلال.
وتجلت صورة الوحدة الوطنية في أرض الميدان وفي خندق المواجهة، وساعدت في التخطيط السليم لإدارة العمليات داخل المخيم مما كبد الاحتلال خسائر فادحة بالأرواح لدى جنوده وتدمير وإعطاب العديد من آلياته العسكرية خلال المعركة".
حكاية بطولة
شكلت معركة جنين التي خاضها المقاومون على مدار 15 يومًا ضد محاولة اقتحام المخيم من قبل قوات الاحتلال أهمية كبيرة بما حملته من رمزية للمقاومة والاستبسال والوحدة في مواجهة المحتل الإسرائيلي، وخاصة أنها كانت ملحمة بطولية سطرت بدماء الشهداء وأشلائهم وأسست لمرحلة جديدة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتحدي المقاومة لأقوى جيش في المنطقة.
وأطلقت قوات الاحتلال على مخيم جنين مصطلح "عش دبابير"، وحاولت اجتياحه قبل عملية "السور الواقي" أكثر من مرة وفي كل مرة كان جيش الاحتلال يجد أهل المخيم له بالمرصاد يتصدون لجنوده بكل شراسة وثبات.
وبرز خلال اجتياح المخيم أسماء سطرت بدمائها أروع الملاحم والتضحيات وكانوا قدوة في العمل الجهادي والنضالي وتجلت الوحدة الوطنية في أبهى صورها، أمثال الشهيد القائد يوسف ريحان (أبو جندل) والأسير القسامي جمال أبو الهيجاء والشهيد القائد في سرايا القدس محمود طوالبة، والشهيد القسامي نصر جرار والشهيد القائد زياد العامر من قادة شهداء الأقصى.
واستشهد خلال المعركة 12 قائداً ومجاهداً قسامياً من كتيبة القائد نصر جرار الذي أصيب في ذلك الاجتياح.
وبعد 21 عامًا على معركة مخيم جنين، جنين ومخيمها ما زالت حاضرة في المقاومة والبطولة والإقدام، حاله حال الضفة الغربية المحتلة، والنصر ينبت حيث يرويه الدم، وشعب دعائمه الجماجم والدم تتحطم الدنيا ولا يتحطم، وسيظل يولد من يحمل الراية.