قائد الطوفان قائد الطوفان

الاعتداءات (الإسرائيلية) على الأقصى.. هل تشعل (إسرائيل) نيران حرب جديدة؟

سليمان صالح

المشهد يحمل الكثير من الدلالات التي تشير بوضوح إلى مفاجآت يمكن أن يشهدها العالم، من أهمها أن نيران حرب جديدة تشتعل، وأن هذه الحرب يمكن أن تشكل تغييرا ثقافيا وسياسيا شاملا.

هذه نتيجة لقراءة متعمقة للواقع والأحداث وليست رجما بالغيب. هناك الكثير من العوامل التي تتجمع لتشكل مرحلة جديدة في تاريخ عالم فقد الحكمة، وأصبحت القوة الغاشمة هي الوسيلة لتحقيق أهداف السيطرة على الشعوب وقهرها والتحكم فيها.

واستشراف المستقبل أصبح يحتاج إلى مقاربات علمية جديدة وبصيرة يمكن أن تكتشف نذر الخطر، فالعالم يحتاج إلى نوعية جديدة من العلماء والمثقفين والإعلاميين الذين يمكن أن يشكلوا وعي الشعوب، ويكشفوا لها الحقائق بجرأة وشجاعة ويقيسوا اتجاهات الرأي العام بأساليب جديدة.

هل تتشكل الآن بداية الانفجار؟

العالم يشاهد الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى ببرود، دون محاولة لمواجهة الظلم الذي يتعرض له المسلمون بإهانة مقدساتهم واستخدام إسرائيل لقوتها الغاشمة في البطش بالمرابطين الذين يضحون بحياتهم لحماية المسجد الأقصى.

هل يجهل هذا العالم أهمية هذا المسجد ومكانته في الإسلام ونتائج الاعتداءات الإسرائيلية عليه والأهداف الحقيقية لليمين الديني المتطرف الذي يحكم إسرائيل؟

لكن ما الجديد الذي يشهده العالم هذا العام؟ قوات الاحتلال الإسرائيلي تقوم بشكل مستمر طوال العقود الماضية بحماية هجمات المستوطنين على المسجد الأقصى، ومحاولاتهم ذبح قرابينهم في المسجد احتفالا بعيدهم.

قراءة الأحداث توضح أن الاعتداءات هذا العام تحمل الكثير من الدلالات، وتعبر عن واقع جديد، فإسرائيل علت واستكبرت وأدركت أنها تتحكم في المنطقة، وأن النظم العربية  أصبحت في حالة ضعف وخضوع، ولم يعد أحد يستطيع حتى أن يشجب ويستنكر اعتداءاتها على المسجد، لذلك يدرك اليمين المتطرف الذي يسيطر على الحكم في إسرائيل أن فرصته جاءت وأنه يجب أن يستغلها في إحداث تغيير في المسجد، وتحقيق التقسيم المكاني والزماني وبناء الهيكل الذي يعتبره اليهود هدف حياتهم وأنه يشكل حلم المؤسسين للكيان الصهيوني منذ هرتزل وبن غوريون ووايزمان.

غرور القوة يقلل القدرة على التفكير

من أهم دلالات الأحداث أن غرور القوة جعل قادة الاحتلال الإسرائيلي لا يهتمون بردود الفعل العربية، فهم يدركون حالة الضعف والهوان الذي بلغته دول العرب، وأن منتهى أمل معظم النظم العربية إرضاء إسرائيل باعتباره الطريق الوحيد إلى قلب أميركا.

لكن التاريخ يوضح لنا أن غرور القوة يطمس البصيرة، ويشل القدرة على التفكير في نتائج الحروب التي يمكن أن يبدأها من يريد ويستخدم أسلحته في التدمير والتخريب والإبادة، لكنه بالتأكيد لا يستطيع أن ينهيها، وأن القوي يمكن أن يتعرض للضعف نتيجة الكثير من العوامل التي لا يراها القوي في الوقت المناسب، وإسرائيل بالتأكيد ليست أقوى من أميركا التي تستمد منها قوتها وأسباب حياتها.

وأميركا نفسها ليست أقوى من الإمبراطورية الرومانية التي حرص الآباء المؤسسون لأميركا على دراسة أسباب سقوطها حتى لاتتكرر التجربة، لكن الآباء ماتوا وأخذوا معهم حكمتهم ولم يعد هناك من يستطيع أن يسير على نهجهم في قراءة التاريخ.

كما أن إسرائيل ليست أشد قوة من روسيا التي تقف الآن بكل أسلحتها عاجزة عن اقتحام أوكرانيا التي كانت كل التوقعات تشير إلى قدرتها على احتلالها خلال أيام قليلة.

من أخطر النتائج التي تكشفها الأحداث أن إسرائيل لم تفهم حقيقة مهمة هي أن القوة لها حدود، وأنها يمكن أن تستخدم في التدمير والإبادة، لكنها يمكن أن تقف عاجزة أمام إصرار شعب على تحرير أرضه والدفاع عن مقدساته، ويمكن أن نبرهن على ذلك علميا من تجربة الشعب الجزائري، وثورته العظيمة ضد الاحتلال الفرنسي.

لكن أين شجاعة ديغول وحكمته عندما أدرك أن استمرار فرنسا في مواجهة الجزائريين والتمسك بمقولة أن الجزائر جزء من فرنسا يمكن أن يؤدي إلى انهيار فرنسا نفسها، ففضل إنقاذ فرنسا بالاعتراف باستقلال الجزائر.

من المؤكد أن شعب فلسطين يمكن أن يكرر تجربة الشعب الجزائري ويبدع في تقديم تجربة جديدة تشكل إلهاما لكل الشعوب التي تكافح لانتزاع حريتها، وأن كل شعوب العالم -بما فيها الشعوب الأوربية- أصبحت تتطلع للحرية والعدل، ويمكن أن تنطلق قريبا لتغير العالم الذي امتلأ ظلما وجورا.

المرابطون في القدس يعلمون الشعوب

هل تريدون أدلة على صحة ما أقول؟ حسنا.. انظروا إلى مشهد المرابطين في المسجد الأقصى وهم يصلون عبادة لله، ويواجهون بصلاتهم أشرس قوة في العالم وأكثرها بطشا وقسوة. إن كل ما يفعله هذا الشعب الأعزل هو الرباط في المسجد والصلاة فيه وعبادة الله القوي.

لذلك تحمل الصلاة في المسجد الأقصى هذا العام الكثير من الدلالات والمعاني التي تحتاج إلى علماء يقرؤونها برؤية جديدة تبحث عن مصادر جديدة للقوة تتجاوز تلك النظرة التي سادت خلال القرنين الماضيين التي ركزت على القوة المادية.

هل يمكن أن تكون الصلاة في المسجد الأقصى مصدر قوة أكبر من قوة الاحتلال الإسرائيلي الغاشمة؟ إنه سؤال يثير سخرية الماديين الواقعيين الذين ينظرون إلى الأرض ويملأ قلوبهم الخوف والهلع والجزع عندما يسمعون صوت الرصاص ويدركون أن الموت اقترب، فيكررون حكم العجائز ويتساءلون بغباء: هل يواجه الكف المخرز؟

الشعب الذي لا يهاب الموت

إننا أمام شعب لم يعد يخاف الموت، وهو يرابط في المسجد الأقصى ويتوقع أن يأتيه الموت برصاصة غادرة من جندي صهيوني مغتصب لم يعد أمامه سوى استخدام الرصاص لقتل المصلين، لأنه يعرف تماما أنهم أصحاب الأرض، وأنهم يمتلكون شرعية الوجود في هذا المسجد الذي يحتل مكانة في قلوبهم، فهو مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه صلى بأنبياء الله إماما، وهذا يعني أن الأنبياء سلموا الرسالة والأمانة للرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، هذا يشكل عقيدة كل مسلم ولا مجال للمساومة في العقيدة، فمن أجلها يمكن أن يضحي الإنسان بنفسه سعيدا.

كل المسلمين في العالم يتمنون الرباط والصلاة في المسجد الأقصى، والشهادة فيه ويغبطون الشعب الفلسطيني الذي أنعم الله عليه بشرف الدفاع عن المسجد بأرواحهم وأجسادهم وأيديهم التي يرفعونها لله الذي يؤمنون أنه وحده القوي وكل مخلوقاته لا حول لهم ولا قوة.

إسرائيل تقرأ الواقع خطأ

استخدام إسرائيل لقوتها الغاشمة ضد المصلين هو نتيجة لقراءة خاطئة للواقع، فالنظم العربية تحظر القياس العلمي لاتجاهات الرأي العام، لذلك يسود الجهل فلا تدرك تلك النظم أن الغضب يتجمع في الصدور، وأنها نجحت في منع الجماهير العربية من التعبير عن غضبها ضد إسرائيل خوفا من بطش هذه النظم واستخدام قوتها الغاشمة لقهرها.

لكن السؤال الذي يحتاج إلى استشراف المستقبل للإجابة عليه هو: هل يمكن أن ينفجر غضب الجماهير العربية فيتحول إلى قوة فاعلة في تشكيل مرحلة جديدة في التاريخ؟

إن تعبير الجماهير عن غضبها في شكل مظاهرات يردد فيها الناس الهتافات لعب دورا في التنفيس عن ذلك الغضب طوال العقود الماضية، وأصبح المنافقون المؤيدون للسلطات العربية يسخرون من هتافات الجماهير خاصة هتاف " عالقدس رايحين.. شهداء بالملايين".

لكن الآن أصبحت النظم تقهر الشعوب، فلم تستطع أن تعبر عن غضبها في شكل مظاهرات، ومضى زمن الهتافات وانتشر الحزن والإحباط وساد الشعور بالهوان والذل، وهذا أدى إلى زيادة غرور إسرائيل واستكبارها وزيادة شعور الفلسطينيين بأنهم أصبحوا وحدهم في مواجهة قوة إسرائيل الغاشمة يواجهون بصدورهم العارية الرصاص، وأن كفهم أصبح يلاطم المخرز الإسرائيلي وليس هناك من يبكي من أجلهم، وليس لهم إلا الله.

غضب يلوح في الأفق

لم تفكر النظم العربية في احتمال أن ينفجر الغضب، وأن الجماهير الساخطة لن تستخدم المظاهرات والهتافات، فقد أدركت أن الموت أفضل كثيرا من حياة الفقر والذل، وأنه لا أهمية لحياة الإنسان إن تعرض دينه للإهانة.

قديما استخلص الناس من تجاربهم التاريخية حكمة تقول إن الضغط يولد الانفجار، وأدرك أحد أهم دهاة الاستعمار البريطاني ذلك -وهو اللورد كرومر- فقال مقولته الشهيرة "إن تركت الغطاء على المرجل (القدر) انفجر، أما إن تركت البخار يخرج فإن سلامة المرجل مضمونة".

أعلم أن ترجمة جريدة المقطم لمقولة اللورد كرومر ركيكة، ولم أحصل على المقولة باللغة الانجليزية لأعيد ترجمتها، لكن النظم العربية لم تترك أية فرصة ليخرج البخار، أو لتعبر الجماهير عن غضبها، فأصبح لزاما أن ينفجر الغضب يوما، ويكون الانفجار شاملا وقويا وكاسحا.

لكن هل يمكن أن يتوجه غضب الجماهير العربية نحو إسرائيل؟ لقد أصبحت الجماهير العربية تدرك جيدا دور إسرائيل في إجهاض تجاربها الديمقراطية ومنعها من التعبير عن إرادتها وصنع المأساة التي تعانيها.

أصبحت هذه الجماهير تدرك جيدا أن فقرها كان نتيجة لرغبة أميركا في ضمان تفوق إسرائيل وسيطرتها على المنطقة، وأن أميركا تحمي النظم الدكتاتورية التي تقهر شعوبها. لذلك من المؤكد أن الجماهير العربية ستوجه قريبا غضبها إلى إسرائيل والنظم الحاكمة، وتلك النظم أضعف من أن تتحكم في غضبة الملايين التي تشاهد الاعتداءات الإسرائيلية على مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشعر بإهانة دينها.

أنا لا أحلم، لكنني أقرأ الواقع وأحاول أن أكتشف ما وراء الأحداث، وأستشرف المستقبل بقراءة التجارب التاريخية وهناك الكثير من المؤشرات على أن السنوات القادمة ستكون حاسمة في حياة الكثير من الشعوب، وأن الكثير من الدول في طريقها للانهيار.

لكن هناك من يصر على إخفاء رأسه في رمال الخوف والعجز والوهن حتى لا يرى الحقائق التي تزداد وضوحا مع توالي الأحداث والاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى وتزيد الغضب في النفوس، ومن المؤكد أن الغضب طاقة إيجابية محركة للفعل، وأن الجماهير ستخرج قريبا بحجارتها تدافع عن حقها في الحياة والحرية والإيمان، والقوة مهما بلغ تقدمها لن تتمكن من إبادة الملايين التي يمكن أن يتحول هتافها -الذي يسخر منه الواقعيون المنافقون- إلى حقيقة.

هناك رأي عام كامن سيعبر عن نفسه قريبا، وإسرائيل ستعجل بدفع الناس إلى الانفجار لأنه لم يعد أمامهم سوى الدفاع عن وجودهم ودينهم، فالموت في ميادين الشرف أفضل من حياة الفقر والذل والقهر، لذلك يغبط كل المسلمين في العالم المرابطين في المسجد الأقصى، ويتمنون أن يشدوا الرحال إليه، وقريبا تتحقق أحلام شعوب صبرت كثيرا فلم يعد أمامها إلا الحياة بعزة أو الموت بشرف.

البث المباشر