على شارع ريجينس جاتان في مدينة لاندسكرونا جنوب مملكة السويد، ينشغل الفنان التشكيلي الفلسطيني مأمون الشايب في مرسمه الذي يعرض فيه جل لوحاته الفنية أمام المارين من السويديين وأبناء الجاليات المهاجرة. فيما يسقط بفرشاته زخات ألوان جديدة على إحدى لوحاته التي لم تكتمل بعد وهي جاثية أمام مقعده الذي يواجه الواقفين أمام مشغله يحدقون في لوحاته التي نادرا ما تخلو واحدة منها من تفاصيل فلسطينية متنوعة.
مأمون الشايب ينحدر من طيرة حيفا بفلسطين، وصل إلى السويد منذ عام 2013 مهاجرا إليها من مخيم اليرموك بدمشق التي ولد فيها عام 1960. أكمل دراسته الجامعية بكلية الفنون الجميلة قسم التصويرالزيتي عام 1984 وعمل استاذا للفنون في مدارس الأونروا هناك لخمسة وعشرين عاما.
وخلال خمسة أعوام من هجرته إلى السويد نجح الشايب في افتتاح العديد من معارضه الشخصية في عموم المدن وحصد الكثير من الجوائز أيضا. يقول الشايب لـ«القدس العربي»: ان تكون فلسطينياً فأنت صاحب قضية عادلة، وان تكون فناناً فأنت صاحب قضية إنسانية ورسالة تجمع بها بين حقوق الإنسان والطفل والمرأة في العالم، فأنا اؤمن بأن الفن بجماله وروعته يجب ان يكون هدفه سامياً وكبيراً.
وقد يزيد الاغتراب من الحنين والشوق للطفولة والأهل والرفاق، فهنا في السويد وفي كل صباح أقصد مرسمي الخاص أباشر فيه عملي بفنجان قهوة عربية، أمسك عودي أدندن به لحنا شرقيا، ثم أفتح كراسة ألواني أبحث عن تفاصيل هم شعبي المدفون في أعماقي. أمسك ريشتي لأخط ألواني الأولى على تلك المساحة البيضاء، فتنتعش ذاكرتي بأحلام الطفولة الراكدة داخلي للعودة يوما إلى وطني فلسطين.
ويضيف الشايب عن تجربته في عملية الاندماج مع المجتمع السويدي وتأثير الفن على إيصال هموم قضيته فيقول «في السويد ألتقي بالكثير من الأصدقاء السويديين من المثقفين، أحاورهم عن مكنوناتي وهواجسي في خطوطي وألواني، هم لديهم قناعات زرعتها فيهم آلة الإعلام الغربية، لذا كانت مهمتي صعبة جدا في إبراز حق شعبنا في العودة وتقرير المصير. عندما وصلت إلى السويد بدأت بارتياد المتاحف والمعارض الفنية للتعرف عن كثب على الثقافة الجديدة، عندها أدركت ضرورة التطوير، كان لدي هدفان في السويد، الأول الوصول من خلال أعمالي الفنية إلى المجتمع لكسب التضامن وتأييد أكبر للشعب الفلسطيني، والثاني ان هناك جيلا فلسطينيا يولد في السويد بحاجة إلى الانتماء، والذي يعيش هنا يعرف ان هذا الجيل الجديد يحيد بشكل كبير من خلال مغريات الحياة الأوروبية وإغراقه في دهاليز الرأسمالية وما تدعيه من حضارة، لذلك اخترت ان أتجول في المدن السويدية والأوروبية من أجل عرض أعمالي بهدف المساهمة في خلق ظروف تساعد على دعم القضية الفلسطينية.
البحث عن الكمال
وفي سياق تشخصيه لخصوصيته الفنية ومدرسته التشكيلية يقول الشايب «ليس أمرا سهلاً ان يختار الفنان الغوص في المدرسة الواقعية، لان الواقعية هي تحد كبير. هي البحث الدائم عن الكمال وتجسيد الحالة الإنسانية، اتجرأ في المدرسة الواقعية مع اللمسات الانطباعية والمحاكاة التعبيرية كي أعطي مساحة كبيرة للتجول في عالم التعبير من خلال اللون والاحساس بالفرح والتفاؤل، وعندما يكون لديك هدف وقضية تدافع عنها، فإن هذا التداخل في تلك المدارس يسمح لك بالوصول إلى أعلى مراتب التعبير الفني».
ويضيف «الفنان المحظوظ هو من يكون له هدف سامي كبير يسعى إليه، وان على الفنان ان يكون سياسيا لطيفا يصل إلى المشاهد ويقنعه بعدالة قضيته لاسيما ان تكون فنانا فلسطينيا تشكيليا فإن عليك ان تبرز عدالة القضية الفلسطينية، فالمواضيع والأفكار كثيرة ولن تحتاج إلى جهد كبير للوصول إلى الفكرة في اللوحة، لدينا من المعاناة والنضال ما يملأ الأرميتاج باللوحات».
وفي مجال مواكبة التطور الحاصل في أساليب الفن التشكيلي ومدارسه في العالم يقول مأمون الشايب «أنا أبحث، أفكر، أتطور، أدرس الأعمال والتكنيك لدى الفنانين العالميين، ودائما لدي هدف في كل لوحة جديدة أرسمها أقول على هذه اللوحة ان تكون أفضل عمل فني لي، وربما يؤمن البعض بمقولة ان الفنان يدخل إلى مرسمه ويغلق عليه بابه ثم يبدع، هذه المقولة في اعتقادي أبعد ما تكون عن الحقيقة، لان على الفنان ان يتابع كل ما يتعرض له شعبه من تنكيل وقمع حريات وحصار وقتل واعتقالات وهموم وهدم بيوت وتمييز عنصري، لابد من وجود أصوات تدافع عن القضايا العادلة، وإذا أردت ان يسمعك أحد فإن عليك ان تفتعل ضجيجاً كي يلتفتوا اليك، واجب كل فنان وأديب وباحث ان يصنع ضجة ما، وغالبا ما نبحث عن ذلك في منصات التواصل الاجتماعي وهو منبر علينا ان نستغله من أجل ابراز عدالة قضيتنا وحقوق شعبنا، ويجب ان لا نغفل بان علينا ايصال رسالتين أولهما للمجتمعات العربية التي تعيش ضمن المجتمعات الأوروبية مفادها ان عليها واجب ايصال قضيتها بالشكل الصحيح، والرسالة الثانية هي للمجتمعات الغربية نفسها لتصحيح الصور المغلوطة عنا وتوعية الرأي العام بحقائق الأحداث والوقائع عن طريق الفن الذي بحوزتنا. فالذين وصلوا إلى هنا قبلنا عملوا واجتهدوا وقدموا وحققوا نتائج كبيرة وأهمها اعتراف السويد بدولة فلسطين، هذه النتيجة لم نصل إليها ببساطة وانما بجهود كبيرة، فمهمة الفنان الفلسطيني في أوروبا يمكن ان تكون بأسلوب السهل الصعب، أي من السهل ان تقدم فناً في هذه المجتمعات ولن يمنعك أحد، ولكنك في نفس الوقت تواجه صعوبة كونك لا تمتلك قاعدة شعبية تساعدك على الصعود والنهوض كفنان تشكيلي، فالمجتمعات العربية في هذه الدول غالبا ما تنظر للأمر كأنه زخرفة تراثية ليس أكثر، بينما الفن التشكيلي هو حالة إبداعية تصل بسرعة البرق إلى المتلقي، يكفي ان ينظر مرة واحدة إلى اللوحة لكي يصل إلى نتيجة يتمناها الفنان.
لا شك ان الزائر لمعارض مأمون الشايب أو لمرسمه، سينال فرصة الاستمتاع الحسي وتذوق فن تشكيلي مميز مع التجوال بين لوحاته، وربما يتيه بين تفاصيل عميقة فيها الريشة والألوان متقنة في إبراز الهوية والثقافة الفلسطينية الممزوجة كحالة أضحت واحدة مع معاناة مستمرة لشعب يعيش تحت وطأة الاحتلال وممارساته التعسفية اليومية. ولعل من أكثر ما نال اعجابنا وأثار الفضول فينا من بين تلك اللوحات لوحتان إحداها للصحافية شيرين أبو عاقلة وقد رسمت باتقان منقطع النظير تختزل في تفاصيلها الإنسان الفلسطيني المحمل بقضيته وتركيبته الاجتماعية والسياسية والإنسانية ومصيره المتوقع في ذات المكان والزمان. أما الثانية فكانت للشاعر الكبير محمود درويش وهو ينتصب بقامته جالسا بهيبة تترك في نفس الناظر إليه أثرا كبيرا من المعاني التي طالما أشار إليها الشاعر في حياته من خلال قصائده الوطنية والحماسية، بل ان المرء يخال نفسه أمام قصيدة جديدة لم تقرأ بعد.
يقول الشايب عن هاتين اللوحتين «هناك الكثيرون ممن وقفوا بوجه الاحتلال، من خلال عملهم أمثال شيرين أبو عاقلة. كان حدث استشهادها مؤلماً على الجميع، وفي ذلك الوقت بدأت برسم الخطوط الأولى في لوحة شيرين واسميتها أيقونة فلسطين، كنت أعيش مع هذه اللوحة بكل تفاصيلها، كان فيها كل شيء يعشق الحياة والحرية، كان لها ابتسامة تحدي، وفيها تفاؤل وفيها أمل، فيها رائحة الوطن ورائحة الزيتون وبيوتنا وحقولنا ومفاتيح عودتنا.
وبعد ان نشرت اللوحة وردني اتصال من فلسطين، من وليد العمري مدير مكتب قناة «الجزيرة» في فلسطين، قال لي كلمات مؤثرة، قال كان لك دور من خلال هذه اللوحة في إحياء قضية شيرين أبو عاقلة، عندها نسيت الساعات الطويلة التي كنت أرسم فيها لوحة شيرين وأسهر أحيانا حتى الصباح من أجل خلق حالة فنية تستطيع ان تصل إلى الجميع، فمن خلال فننا ولوحاتنا وأعمالنا الثقافية نستطيع ان نفعل ما لا يقدر عليه رجال السياسة. لم يقف الناس ليستمعوا طويلاً لخطاب سياسي اليوم بقدر ما يمكنهم الوقوف طويلا أمام تلك اللوحة التي تعبر عن مأساة طفل فلسطيني يحاصر لسنوات طويلة يمنع عنه الغذاء والدواء، أو إلى تلك المرأة الفلسطينية التي تنتظر في كل يوم أسيرا أو شهيدا، هذه المناضلة تحثك كل يوم ان تمسك الريشة وترسم هذه الحالة من أجل ان تسمع صوتها لكل العالم، فهذا واجبك كفنان، والفنان ليس عليه ان يرسم فقط الزهور والمناظر الطبيعية وغيرها. للفن رسالة على الجميع ان يسعى لإيصال صوت الحق، وأناشد جميع الفنانين الفلسطينيين في العالم من أجل إيصال صوت هذا الشعب لأننا أقدر الناس على إيصال هذه الحقيقة».
وأما عن لوحة محمود درويش فيعلق الشايب «طالما عشت أشعار محمود درويش منذ ان عرفت بان اليد يمكنها ان تكون من حجر وزعتر، وان عليهم ان يأخذوا قبور أجدادهم ويرحلوا وان على هذه الأرض ما يستحق الحياة (اقتباس من قصيدة لمحمود درويش). لقد بحثت كثيرا عن صورة لمحمود درويش وربما بحثت بين العشرات من الصور حتى وجدت في هذه اللقطة ما يستحق الحياة ووجدت حجرا وزعترا ووجدته يقول (آن لكم ان تجمعوا عظام أجدادكم وترحلوا) ان تكون فنانا ليس بالقرار السهل، فربما يكون لدي الكثير من الرسائل علي ان أوصلها للعالم، لكني أحب ان أرسل أولاً بطاقات تهنئة مكتوبة عليها الحرية لفلسطين وهذه عبر لوحاتي التي ترونها من خلال محمود درويش وشيرين أبو عاقلة والأم الفلسطينية التي تجلس على عتبة دارها تنتظر عودة ابنها الأسير، أو ذلك الرجل الذي يجلس على أنقاض بيته المهدم من قبل الاحتلال، والأمثلة تطول».