يبدو أن الشاب المولود في عام 1983 كان يسكنه شغف لا تكفيه لوحة بيضاء في غرفته، بل امتد لينتقل الى الجدران، فسعى إلى تلوين القدس القديمة التي يعشقها بحياة جديدة، كان يخاف أن تظل الصورة بلا ألوان، بينما كان يتمدد السرطان في جسده، يسحب الحياة تدريجيا والألوان من روحه.
بعد معركة طويلة مع السرطان رحل الفنان الفلسطيني محمد جولاني، رحل شابا وسقطت الريشة التي ظلت تقاوم معه حتى النفس الأخير.
أن تكون من مواليد القدس هذا يعني أن شريط حياتك مليء بمشاهد تفسر المعنى الحقيقي لحياة المقدسي ويومياته التي تملأها صنوف العذاب، وذلك العذاب الذي كان يملأ لوحات "فان جوخ" فلسطين كما يحلو للجميع تسميته.
كان الألم باديا في كل لون وفي كل لمسة صغيرة لريشته على كل لوحة، ثم امتدت الألوان لتصبح على الجدران.
لوحات محمد باقية، لأنها ليست مجرد صورة معلقة على الحائط، بل هي صور رسمت فوق أسقف بيوت المقدسين القديمة في البلدة القديمة، بل هي بيوت لون جدرانها وحارب الاحتلال الذي كان يمنعه من فعل ذلك.
وبطريقة سرية بدأ " بسقف بيت" لأن الاحتلال لم يسمح له بالبدء، فخاض حربا مقدسية أخرى من تلك الحروب التي لا يخوضها سوى المقدسيين لأنه كان على حد تعبيره يقول:" كنت أريد أن أرى على جدران كل بيت وسقفه بقعة لون، بقعة أمل"
أصيب محمد جولاني بالسرطان قبل أشهر، ولم يكن المرض عائقا، وكأن المقدسي لا عائق أمامه ليخلق حياة من بين الموت.
وفي ظل المرض كان آخر ما قام به منذ جائحة كورونا هو مشروع فني يحاكي الجائحة بدعم من المركز الثقافي الفرنسي بالقدس يشتمل على ثلاث لوحات تحمل كل منها رسالة.
بدأ لوحته الأولى بصورة شخصية له وهو يرتدي الكمامة بعين واحدة بينما تظهر عينه الأخرى وكأنها مصابة من الاحتلال، وتعكس اللوحة الثانية صورته في المرآة وهو يرسم لوحته الأولى بينما يرسم في الثالثة نفسه في اللوحة الثانية المنعكسة في المرأة، وهي تقوم برسم الأولى.
ثلاثية فنية تعكس ما يمر به العالم منذ جائحة كورونا، وما مر به أهل القدس تحديدا، فتجسد العزل والتوقف عن الحياة في كل لوحة، كما فعلت كورونا في الأفراد حول العالم وقد قال عن تجربته الأخيرة :"الوقت الذي يستمر في الطيران على الرغم من الانقطاع القسري، وعلى الرغم من ثبات المكان، هناك مساحة يمكنها أن تستوعب العمل الدائم والمستمر"
كان الجولاني يريد الاقتراب أكثر من الشارع المقدسي، كان يريد كسر الفكرة التي تقول إن للفن أصحابه، وليسوا من العامة، فقرر البدء بتنفيذ فكرة لوحات الشارع.
علقت لوحات رسمها الجولاني في كثير من الشوارع المقدسية وكان متباهيا كالعادة :" رحّبت كثيرًا بفكرة متحف الشارع عندما عرضتها مؤسّسة الرؤيا الفلسطينيّة، إذ إنّ هذا المشروع يعمل على تقريب الفنّان من المواطنين، فيتعرّف الناس من خلاله على فنّانيهم الذين يكونون في أغلب الأحيان، مجهولين بالنسبة لهم، كون المجتمع المقدسيّ لا يهتمّ بالفنّ بسبب الضغوطات والمشاكل التي يواجهها، سواء من الناحية السياسيّة أو الاقتصاديّة.'
تلونت الجدران والأسقف، وبقيت ألوانها، وبقي الشارع المقدسي ولوحات محمد، وهكذا ترجل محمد بعد أن اطمأن على أثره الباقي .