شهد السودان، منذ استقلاله عام 1956، صراعاتٍ وحروباً أهلية، بهدف السيطرة على مقاليد الحكم في البلادِ، التي انفصل عنها جنوبها، عام 2011، بعد سلسلةٍ من الحروب والصراعات.
وبدأت محاولات الانقلابات العسكرية في السودان بعد عامٍ واحدٍ فقط من الاستقلال، بحيث نفذت مجموعة من ضباط الجيش، بقيادة الضابط إسماعيل كبيدة، محاولة انقلاب ضد أول حكومة، لكنّ رئيس الحكومة آنذاك، إسماعيل الأزهري، أفشل المحاولة الانقلابية.
وعاش السودان عدة حروبٍ أهليةٍ طويلة، منها أطول الحروب الأهلية في أفريقيا منذ مطلع القرن العشرين، والتي انتهت بانفصال جنوبيّه عن شماليّه.
ويوم السبت الماضي، بدأ فصلٌ جديد في تاريخ الصراع في السودان، بمواجهاتٍ مسلّحةٍ بين الجيش السوداني، بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي).
وجاء توقيت انفجار الاشتباكات وحجمها والسرعة التي انتشرت فيها في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك دارفور والمناطق الحدودية الشرقية، صادماً ومفاجئاً للكثيرين، لكنّ قراءةً دقيقة في واقع المشهد السوداني وارتباطاته، تكفي لتوقع انفجار الأوضاع بين الرجلين، ثمّ إنّ جوهر هذا الصراع أكبر كثيراً من شخصيتين. ففي الواقع، توجد ارتباطاتٌ متعدّدة تؤثّر في السودان، وتجعله مؤثِّراً أيضاً.
موقعٌ استراتيجي
يقع السودان عند حدود 7 دول أفريقية، بالإضافة إلى امتلاكه ساحلاً ممتداً على البحر الأحمر، بطولٍ يبلغ نحو 720 كيلومتراً. ويُعَدّ البحر الأحمر شرياناً حيوياً للتجارة العالمية المارة من قناة السويس، وخصوصاً النفط والغاز.
ويُعَدّ السودان ثالث أضخم الدول الأفريقية، وله موقع استراتيجي يجعل عدم استقرار البلاد مدعاةً إلى مخاوفَ دوليةٍ كبيرة، فانفجار صراعٍ مسلحٍ كالذي يعيشه السودان اليوم، كفيلٌ بأن يُهدد استقرار مناطق محيطة بأسرها، فقد يشتعل خط من الاضطرابات متجهاً من السودان إلى غربي القارة الأفريقية حتى تخوم المحيط الأطلسي، مروراً بتشاد والنيجر ومالي.
ثمّ إنّ السودان يوجد في منطقةٍ عالية العسكرة أصلاً. فجنوبيّ السودان يعاني توتراتٍ أمنية، وإثيوبيا لا تزال تعيش حالة حذر بعد خروجها من الحرب الأخيرة في إقليم "تيغراي"، كما أنّ ليبيا تعيش أزمتها الأمنية الخاصة، والتي تتشعب ارتباطاتها بصورة مُعقّدة، وتشاد تبقى حذرة من كل معطيات الوضع الأمني في محيطها.
وتجدر الإشارة إلى أنّه، لأكثر من قرن، كان السودان وإثيوبيا على خلافٍ بشأن منطقة الفشقة الحدودية الخصبة، حيث يتقاسم المزارعون من كِلا البلدين الأراضي، ليشتد النزاع مؤخراً، في أواخر عام 2020، بعد أن دفع القتال في منطقة تيغراي في أثيوبيا الجنود الإثيوبيين في الفشقة إلى المغادرة، ثمّ تحركت قوات سودانية للسيطرة على أجزاء من الأراضي المتنازع عليها.
وجرى تبادلٌ للقصف في أنحاء المنطقة المتنازع عليها، مع سقوط بعض القتلى، وهدأ القتال منذ ذلك الحين، مع بقاء النزاع الأساسي قائماً من دون حل.
كما اندلعت اشتباكات بصورة متكررة بين القوات الحكومية ومقاتلي النوبة المتمردين في ولاية "جنوب كردفان" السودانية، في أعقاب انفصال جنوبي السودان.
وترى مصر في السودان دولة مهمة لأمنها القومي، وخصوصاً مع ظهور أزمة سد النهضة في إثيوبيا، والذي تعدّه القاهرة مهدِّدا لأمنها المائي.
وظهرت مصر بصفتها أحد الضامنين للاتفاق السياسي، عام 2019، بين القوى المدنية والجيش، بعد إطاحة البشير، كما بدت مؤيدة لإجراءات البرهان عام 2021.
ومع تفجّر الصراع العسكري الحالي، قالت مصر إنّها " تراقب تطورات الوضع في السودان من كثب"، فتداخُلُ البعد الجغرافي لميراث العلاقات والتحولات والحسابات يجعل المخاوف من أيّ مآلاتٍ للوضعين الأمني والسياسي في السودان بنداً حساساً جداً بالنسبة إلى القاهرة، أمنياً وسياسياً أيضاً.
العسكر والسلطة والثروة
يمثّل الطرفان المتصارعان، البرهان وحميدتي، انقساماً طويل الأمد في المجتمع السوداني، فالبرهان مجنّدٌ تقليدي في الجيش، تصاعد في الرتب، ونشأ في بلدة صغيرة في شمالي السودان، ويتطلع إلى مصر ويتحالف معها.
لكنّ حميدتي يبدو مغايراً تماماً، فهو من منطقة دارفور الغربية، وتمتد جذور أسرته إلى تشاد. وهو ينتمي إلى قبيلة الرزيقات العربية البدوية، وصنع اسمه مع مجموعة "الجنجويد" المسلّحة، والتي قاتلت أعواماً طويلة في دارفور، وتصدّرت مشهد الحرب هناك، حتى عام 2013، عندما حوّل حميدتي "الجنجويد" إلى قوات الدعم السريع، ووسّع سلطته منذ ذلك الحين. واليوم، هو واحد من أغنى الرجال في السودان، ويمتلك مشاريع ضخمة في التعدين.
انقلب الرجلان في البداية على الرئيس السوداني السابق، عمر البشير؛ الرجل القوي الذي خدماه، ثمّ انقلبا على السياسيين المدنيين، الذين وصلوا إلى السلطة بعد ذلك، والآن يحاول أحدهما الانقلاب على الآخر.
اندلع الصراع الحالي بينهما بسبب خطط دمج قوات الدعم السريع، بقيادة حميدتي - والتي رعاها البشير كثقل موازن للجيش - في الجيش النظامي، في إطار خطط مثيرة للجدل، من المفترض أن تؤدي إلى عودة البلاد إلى الحكم المدني بعد انقلاب عام 2021. ويبدو أن الرجلين يَعُدّان معركتهما مسألة بقاء. وقال حميدتي إن الجنرال برهان "سيموت" إذا لم يقدّم إلى العدالة، كما أعلن الجيش حميدتي "مجرماً مطلوباً".
وتتبادر شكوكٌ لافتة بشأن شخصيتي الصراع، البرهان وحميدتي، وأنصارهما، مفادها أنّهم قلقون بشأن ما قد يحدث لثرواتهم ونفوذهم إذا تم إبعادهم عن مناصبهم القوية.
أنظار القوى الدولية لا تفارق السودان
وقال معهد "أبحاث السياسة الخارجية" الأميركي، في تقرير موسّع له بشأن السودان، نشره أواخر العام الماضي: "إنّ الموقف الأميركي السابق، والمتمثل بتمويل حالة الظل للمنظمات الدولية غير الحكومية العاملة في السودان، أدى فقط إلى نزع الشرعية عن الجهات الفاعلة المحليّة، والتي كانت تحاول تحسين مجتمعاتها، لكنّها تفتقر إلى الأموال اللازمة للقيام بذلك. ولا يمكن للأمم المتحدة أن تحكم السودان، فالسودانيون فقط هم من يستطيعون".
تضاعفَ مؤخراً اهتمام الولايات المتحدة الأميركية بقضية أمن البحر الأحمر، وبدا ذلك في قيادتها قوةً بحريةً مشتركةً مع كثير من حلفائها، و"مبرّر" ذلك، وفقاً لها، "تأمين الملاحة في البحر الأحمر ضدّ أي تهديدات من جانب دول أو جماعات".
وأجرى وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الإثنين الماضي، اتصالين بقائدي الجيش والدعم السريع، محاولاً إقناعهما بإعلان هدنة لـ24 ساعة، من أجل أغراضٍ إنسانية، مؤكداً أن الخطوة ستمهد للتفاوض.
وتحاول الولايات المتحدة أن تكرّس نفوذها في المنطقة لهدفٍ أساسي تعلنه، وهو الوقوف في وجه النفوذ الصيني المتزايد في أفريقيا، والآخذ في التمدد والتجذر، على نحو يُقلق الإدارة الأميركية.
وفي شباط/فبراير الماضي، قام المدير العام لمنظومة الصناعات الدفاعية السودانية، الفريق أول مرغني سليمان، على رأس وفدٍ سوداني، بزيارة جناح الصين خلال معرض الدفاع الدولي "IDEX-2023"، والذي أُقيم في دبي. وبحث الوفد في فرص التعاون المشترك بين السودان والصين في مجال الصناعات الدفاعية.
وذكرت تقارير صينية سابقة أنّ السودان قريب من التعاقد على مقاتلات "J-10CE" الصينية الحديثة.
وأشار "معهد الولايات المتحدة للسلام" الأميركي، في أحد تقاريره، إلى أنّه "نظراً إلى أنّ المصالح التجارية للصين في السودان تتسق مع هدف مبادرة الحزام والطريق، والمتمثل بتعزيز روابط البنية التحتية في المنطقة، فإنّ الحاجة إلى حماية مصالحها الاقتصادية ستزداد وفقًا لذلك، وستكون لها آثار في مشاركتها مع القوى الإقليمية في البحر الأحمر".
ويُظهر تحليل، أجرته مؤسسة "RAND" البحثية الأميركية، في الصدد ذاته، أنّ الصين منخرطة في أنشطة تعاون وتنسيق في 23 دولة أفريقية، بما في ذلك أربع دول تُصدِّر إليها الصين أسلحة وتمركز مقاولين أمنيين، وهي جمهورية أفريقيا الوسطى وجيبوتي وإثيوبيا والسودان.
وأوضحت "RAND" أنّه إذا كانت الصين تستخدم صادرات الأسلحة لممارسة نفوذها، وتستخدم متعاقدين أمنيين للمحافظة على الوصول من كثب إلى الدول الأجنبية، فإنّها "تنجح بصورة كبيرة في جميع أنحاء أفريقيا".
لقد أدركت كل من بكين وموسكو، منذ مدة طويلة، أهمية السودان، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ضمن إطارٍ أوسع لاغتنام الفرص، من أجل توسيع حضورهما في القارة الأفريقية. وأصبح وضوح النفوذ الصيني الاقتصادي، والنفوذ الروسي الأمني، في السودان، مصدر قلق متزايداُ لصنّاع السياسة الأميركيين.
ووسّعت روسيا حضورها داخل السودان، وركّزت بصورة عامة على مبيعات الأسلحة والتدريب العسكري عن طريق شركات شبه عسكرية روسية، بالإضافة إلى تبادل المعلومات الاستخباريّة، والوصول إلى المعادن، ولا سيما اليورانيوم والبلاتين. كما ظهرت تقارير تشير إلى عرض السودان استضافة قاعدة بحرية روسية عند ساحل البحر الأحمر.
وقال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في أثناء زيارته السودان، في شباط/فبراير الماضي، إنّ "روسيا والسودان متفقتان على التوجه نحو عالم ديمقراطي متعدد الأقطاب، وموسكو تنتظر موافقة الخرطوم بشأن قاعدة فلامنغو في البحر الأحمر، وضرورة التنسيق المشترك في المحافل الدولية لإصلاح الأمم المتحدة". وهو الحديث الذي أثار حفيظة الأميركيين.
تُغذي هذه الأسباب مجتمعةً عدم استقرار السودان، سياسياً وأمنياً، لتجعله بلداً على شفير احتدام الصراع بصورة مستمرة، في واقعٍ ملتهب وقابل للاشتعال إلى أقصى درجة، بالنظر إلى ما يمتلكه السودان من موقع وثروات، بالإضافة إلى تاريخٍ حافلٍ بالصراع الداخلي وارتباطاته الخارجية، وخصوصاً الحدودية منها.
المصدر: الميادين نت