شكّل الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال (الإسرائيلي) -ولا يزالون- ثابتا مهما من ثوابت القضية الفلسطينية، ومحور أساس في مراحل الصراع مع المحتل، قبل الاعتقال وخلاله وحتى بعد الإفراج عنهم، ورسَّخت معاناتهم جذور النضال وجذوة المقاومة.
ولعل ذلك كله جعل الباحث الفلسطيني عقل صلاح أستاذ العلوم السياسية بالجامعة العربية الأميركية يفرد لقضية الأسرى مساحة مهمة وكبيرة في أعماله البحثية، التي كان آخرها كتاب "المغيبون خلف الشمس" الصادر حديثا بعد سنوات من الكد والتعب لإخراجه للعلن.
وبدا صلاح مختلفا عن غيره من الباحثين والكتاب في تناول قضية الأسرى، فلم يسلط الضوء على معاناتهم بحذافيرها أو قصص إرادة وتحدٍ تعكس صمودهم، بل أجمل حكايتهم عبر قادتهم، فاختار 10 منهم ممن قضوا ويقضون أحكاما عالية ومضى على اعتقالهم سنوات طويلة، وممن جعله الاحتلال هدفا لاعتقالاته على الدوام.
قادة الفكر والأسر
ويدخل صلاح -وهو أسير سابق وأمضى في سجون الاحتلال سنوات عديدة- في كتابه بعرض سير أولئك الأسرى العشرة -وهم أحمد سعدات ومروان البرغوثي وكريم يونس ونائل البرغوثي وجمال أبو الهيجا وكميل أبو حنيش وخالدة جرار ووليد دقه وحسن سلامة وزيد بسيسي- الذين تتنوع مشاربهم الفكرية والحزبية ومواقعهم الجغرافية في فلسطين التاريخية.
ويسلط الضوء على تاريخهم الكفاحي في مقارعة المحتلين قبل أسرهم وبعده، ويسرد من خلالهم رواية الحركة الوطنية الأسيرة عبر مليون فلسطيني زجت بهم (إسرائيل) في سجونها منذ احتلالها الضفة الغربية عام 1967، وهي رواية الشعب الفلسطيني المناضل برمته.
وهو هنا يعد الكتاب تحية وفاء للأسرى ومنبرًا للدفاع عن حقهم المشروع في المقاومة بتصديه للرواية (الإسرائيلية) التي تسعى لتجريم نضال المعتقلين ونزع مشروعية نضالهم بوصفهم مقاتلين شرعيين عن طريق تجريدهم من مكانتهم القانونية وكرامتهم الإنسانية.
وفي 5 فصول و10 مباحث، يتوزع الكتاب على 287 صفحة من القطع المتوسط، وأعدَّ له صلاح منذ 3 سنوات، ويخصص لكل أسير منهم حكايته، وكيف تحملوا ظروف الاعتقال القاسية والتعذيب بأشكاله، ولكنهم -رغم ذلك- صمدوا وانتصروا على السجان وأسقطوا مخططاته الهادفة لسلبهم أجسادهم وهويتهم الوطنية.
ولصلاح الذي قضى 6 سنوات في الاعتقال الإداري بسجون الاحتلال (الإسرائيلي) 3 كتب أخرى وعشرات الدراسات البحثية المحكّمة عن الشأن العربي والفلسطيني و(الإسرائيلي)، و17 منها حول الأسرى فقط.
الكتابة عن الأسرى وأدوارهم
وفي كتابه، أقام صلاح محاكمة ثقافية سياسية وإنسانية وأخلاقية لدولة الاحتلال (الإسرائيلي)، وكأنه يُقدَّم لائحة اتهام طويلة ضد هذا المحتل الذي يرتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الأسرى، ومنها الاعتقالات الجماعية التي تحولت لعقاب جماعي للشعب الفلسطيني والتعذيب والعزل والاعتقال الإداري التعسفي وغير ذلك، منتهكًا كل الأعراف والاتفاقيات.
وبذلك، فتح الكتاب -الذي عُدَّ شهادة حية على جرم الاحتلال- كل النوافذ الموصدة أمام المجتمع العالمي ومؤسساته الإنسانية والحقوقية للاطلاع على فظائع الإجرام (الإسرائيلي) بحق الأسرى.
ولعلَّ صلاح كان أقرب من غيره للأسرى، ومن ثم كتب عنهم بحكم أن "تجربته مريرة" كما يصفها، ويقول للجزيرة نت: "وفاء إلى الأسرى الأصدقاء الذين ربطتني ببعضهم علاقات وطيدة ومعاناة واحدة، وجدت من واجبي الوطني والأكاديمي أن أحمل قضيتهم وأدافع عنها".
وإلى جانب معاناتهم، لم يغفل صلاح عن إبراز الدور السياسي والثقافي والاجتماعي للحركة الوطنية الأسيرة، وجوانب نوعية أخرى لم يطرحها الباحثون من قبل، ومنها أولا إقامة السلطة الثورية داخل السجون (عبارة عن دولة فلسطينية مستقلة داخل السجون).
وثانيا، دورهم السياسي والاجتماعي في نقل النضال الوطني من الخارج إلى الداخل، وإنقاذ الثورة الفلسطينية من حصار الجغرافيا والتدخلات الخارجية، وشكل الأسرى قوة هائلة أشعلت الانتفاضات بوجه الاحتلال وكانت دفيئة وحاضنة للثورات، ولعبوا دورا فاعلا في المصالحة الوطنية.
وعدَّ الكتاب أن حرية الأسرى جزء أصيل وأساسي من حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، ودعا لانتزاع اعتراف دولي بأنهم أسرى حركة تحرر وطني واعتبار قضيتهم عالمية.
ويتحدث صلاح في كتابه عن إبداعات الأسرى وما سماها ثورتهم الثقافية والأدبية والفكرية وغزارة إنتاجهم رغم قوانين السجن المشددة، إذ خلقوا ثورة تعليمية وأكاديمية داخل السجون، وأكمل هؤلاء الأسرى العشرة القادة تعليمهم، وآخرون لحقوا بهم في ذلك الصدد.
غايات الكتاب
ويقول صلاح للجزيرة نت إنه تطلع في كتابه لتحقيق 3 غايات، أولها استعراض الحركة الأسيرة عبر 10 من قادتها البارزين والمؤثرين، وتوفير مادة معرفية وتاريخية كافية وبمنهج موضوعي، وثانيا إنارة الهوية النضالية الثقافية التحررية التي صاغتها أجيال متعاقبة من المعتقلين.
وثالثا، يوجه صلاح نقدا سياسيا ذاتيا بسبب التقصير في الدفاع عن الأسرى والدعوة إلى تفعيل قضيتهم على كل المستويات القانونية والحقوقية محليا ودوليا أملا في تحررهم.
من جهته، يرى وزير شؤون الأسرى والمحررين السابق عيسى قراقع أن هذا الكتاب لا يتميز فقط بتسليطه الضوء على أسرى وأدباء مثقفين وقادة لهم حضورهم في المشهد السياسي والوطني والثقافي داخل السجون وخارجها، بل بما سيبرزه من مواقف وزوايا لم تتطرق لها الكتابات والمؤلفات الأخرى، لا سيما أن الأسرى المختارين ثلة منتقاة تشكل لوحة فسيفسائية للأسرى ككل، ولهم دورهم في التأثير على الأصعدة المختلفة وطنيا وسياسيا.
ويقول قراقع -الذي قدَّم لكتاب "المغيبون خلف الشمس"- إن الكتاب محاولة لإعادة لفت الأنظار الرسمية والشعبية لمعاناة الأسرى داخل السجون، وإعادة التأكيد على أنهم ليسوا مجرد قضية إنسانية، بل من أهم القضايا السياسية والوطنية التي ينبغي وضعها على رأس الأجندة السياسية والإعلامية والجماهيرية والكفاحية.
مسؤولية مشتركة
ويفرد صلاح في كتابه مساحة كبيرة للحديث عن كل أسير، بحيث يتناول حكاية كل أسير في فصل لوحده أو يجمع كل أسيرين في فصل وهكذا، ويتحدث عن نضاله بوصفه ثائرا قبل الاعتقال وقائدا داخل السجن "وإن عمد الاحتلال لسن عشرات القوانين العنصرية لقتل إرادة الأسرى ومحاصرتهم داخل سجونهم"، على حد تعبير صلاح.
وأمام اعترافه بتراجع الاهتمام بقضية الأسرى في السنوات الأخيرة شعبيا ورسميا، يختم صلاح كتابه بمطالبة القيادة الفلسطينية بتدويل قضية الأسرى قانونيًا ودبلوماسيًا، وتحييد قضية الأسرى ومخصصاتهم المالية عن الخلافات الفصائلية، والضغط على (إسرائيل) من أجل تحسين ظروف الاعتقال، ولم يعف كذلك الفصائل والتنظيمات الفلسطينية وكذلك المستوى الشعبي من مؤازرة الأسرى والانتصار لهم.
المصدر : الجزيرة