أ. يوسف علي فرحات
تخوض الشعوب العربية هذه الأيام معركة العزة ، أو قل انتفاضة العزة والكرامة ، الانتفاضة على الذلة والخنوع والفقر والعمالة للاستعمار .
والعزة خلق دعا إليه الإسلام ، بل تعرف ملة من الملل شحنت أتباعها بمعاني العزة مثل الإسلام
الذي جعلها صفة من صفات الله ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ [فاطر:10] ، كما دعا اتباعه ، يتصفوا بها ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾[المنافقون: من الآية8] .
فالعزة الحقيقية صفة استأثر الله بها ، لذلك قَدَّم في الآية المُسند إليه على المسند فقال : ( فلله العزة ) ولم يقل : ( العزة لله ) لاحتمال أن تكون العزة لغيره ، فالله سبحانه وتعالى : هو العزيز ، والعزة جميعاً له ، فهو الخالق والمحي والمميت والرزاق والجبار والقهار .
فالعزة له سبحانه بالحق وذل العباد له أيضاً بالحق لا بالباطل ، كما أن الذل لغيره بالباطل لا بالحق ، لأن الذل لا ينبغي إلا لمن له العزُ كله . ومن طغى وتجبر وأراد أن يذل له الخلق فهو جاهل لأنه يطلب ما لا يستحق . لذلك يأبى الله العزيز ويأبى الإسلام على أتباعه وأبنائه أن يذلوا لغير الله تعالى ويرهبوا سلطاناً غير سلطانه ، نعم قد يُستضعفون ، لكن لا يقبلون أن يكونوا أذلاء ، كما أن الإسلام لا يرضى لأبنائه أن يقيموا على الذل ، فإن عجزوا فينبغي عليهم التحول إلى بلد آخر يعيشون فيه أعزاء ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾ .
والمسلم يتذكر معاني العزة ويصطبغ بها في اليوم خمس مرات وذلك في الأذان والصلوات فـ " الله أكبر " التي ترتفع من فوق صوت المآذن تعني أنه لا سلطان ولا عظيم ولا قوي إلا هو ، كما أنه إذا صلى ردد في كل ركوعه كما أخرجه أصحاب السنن ( سبحان ربي العظيم ) ، وردد في سجوده (سبحان ربي الأعلى ) ولم يقل : ( سبحان ربي الحليم أو الغفور ) لماذا هذه الكلمات بالذات ؟ لأن الأعلى والعظيم تُجسد معنىَ واحد وهو أن الكبرياء والعزة له وحده سبحانه لا لأحد سواه ، ولذلك جاء في رواية أخرى وهي عند أبي داود والنسائي وأحمد بإسناد حسن أنه يردد في ركوعه وسجوده فيقول ( سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة) فمن صلى وسبح وكبر ثم ذلَ لغير الله فما صلى ولا سبح ولا كبر فالإسلام صب في نفوس أصحابه هذه المعاني صباً ، فإذا نُودي للصلاة يُنادى عليها بـ الله أكبر وإذا افتتح الصلاة يفتتحها بـ الله أكبر لذلك فهم يثورون لأي شئ يخدشُ كرامتهم ، بل يَحُثهم على ذلك ، فهذا الفاروق عمر رضي الله عنه يقول : (يعجبني من الرجل إذا سِيم خطة خسف أن يقول بملء فيه لا )
وهو الذي قال رضي الله عنه ، كما عند الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط البخاري ومسلم : ( إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس فأعزكم الله بالإسلام فمهما تطلبوا العزة في غيره يذلكم الله ) .
لقد رَسخ الإسلام هذه المعاني في نفوس أتباعه ، وجعلها آيات تتلى آناء الليل وأطراف النهار ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (الشورى:39) . هكذا يأمر الإسلام أتباعه إذا وقع على أحدهم بغي واعتداء وظلم ألا يسكت بل عليه أن ينتصر لنفسه وللأمة وأن يرد هذا البغي ، مع أنه قال في الآية التي قبلها في وصف المؤمنين (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى:37) نعم إذا وقع عليك اعتداء أو ظلم عارض من أخيك المسلم فهنا الإسلام يحثك على العفو والمغفرة ، أما إذا كان البغي قد جاء من فوقك من رجل غره سلطانه واستكبر واستطال بهذا السلطان والمال والجاه على خلق الله ، فهنا يجب رد الاعتداء و دفع البغي بكل الوسائل المشروعة .
هذه المعاني عندما شاعت في الأمة ورَسَخت مَلكنا الشرق والغرب ، ولم نحسب لأي قوة على الأرض حساباً ، بل وهابتنا ملوك الكفر
فهذا خالد بن الوليد t يرسل إليه هامان قائد الروم رسالة يقول فيها : إنه قد بلغنا أنه ما أخرجكم من بلادكم إلا الجوع فهلموا أن أُعطيَ كلَ رجلِ منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاماً وترجعون إلى بلادكم فإذا كان العام المقبل بعثنا لكم بمثلها ، فقال له خالد بعزة المؤمن : إنه لم يُخرجنا من بلادنا ما ذكرت غير أنا قوم نحب شرب الدماء وأنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم فجئنا لذلك .
كما ذكر ابن كثير في " البداية والنهاية" أن قائد الفرس سأل قائد المسلمين فقال له من أنتم ؟ ومن أين جئتم ؟ وما شأنكم ؟ فقال له القائد المسلم : نحن قدر الله سُلط عليكم فوالله لو كنتم في سحابة لصعدنا إليكم أو لنزلتم إلينا .
لقد كان العرب في الجاهلية قبل الإسلام يُفضل الواحد منهم الجوع مع العزة ، على الشبع مع الذِلة ، والموت مع الكرامة ، على الحياة مع الهوان ، فهذا عنترة نشد قديماً فقال :
لا تَسقني ماءَ الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماءُ الحياةِ بذلة كجهنم وجهنمُ بالعز أكرم منزل
وقديماً أيضاً قال التابعي الجليل سفيان الثوري : ( من يصبر على الخبز والملح فلن يستعبده الناس )
فكيف بأمةِ آمنت أن الله هو القوي ، هو العزيز ، هو الرزاق ذو القوة المتين ، فهل تخضع ، هذه الأمة ، هل تبيع كرمتها وعزتها وحقوقها مقابل دراهمهم :
لقد علمنا إسلامنا العظيم أن هذه الدنيا حقيرة ، لا تساوي عند الله جناح بعوضة ، لذا ينبغي على المسلم أن يكون عزيزاً ولا يخش الطواغيت ، حيث إن أعمار الناس بيد الله وليست بأيديهم ، قال صلى الله عليه وسلم :
( لا يَمنعنَّ رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه ) [ أخرجه الترمذي 4/483رقم (2191) ]
إن اعتزاز المسلم بنفسه ودينه وربه هو كبرياء إيمانه ، وكبرياء الإيمان غير كبرياء الطغيان ، إنها أنفة المؤمن أن يصغر لسلطان ، أو يكون ذنباً لإنسان . هي كبرياء فيها من التمرد بقدر ما فيها من الاستكانة .
إن المؤمن لا يطلب العز إلا من الله أما المنافقين أصحاب القلوب المريضة ، المرجفين في المدينة ، الذين يفهمون الحياة ، على أنها مصالح وأكل وشرب وإشباع للغريزة ، فهؤلاء ، يطلبون العزة من الكافرين أعداء الأمة ، الواحد من هؤلاء على استعداد أن يتنازل عن كل شئ مقابل أن يملأ بطنه ويُشبع شهوته ، بل مقابل أن يضمن أن يسافر خارج البلاد بحرية بدون عوائق ، أمثال هؤلاء توعدهم الله سبحانه فقال ﴿بَشِِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ﴾ . هؤلاء العزة في نظرهم بسيارة فارهه ، أو بقصر منيف ، أو بأموال كثيرة
وهم الذين قال فيهم أبو سعيد الحسن البصري رحمه الله : ( لا تغتروا بهم فو الله وإن طققت بهم المراكب ، وهملجت بهم البراذين إلا أنهم أذلاء أبى الله إلا أن يُذل من عصاه ) .