في زمن مضى كان للإتحادات الشعبية والنقابية الفلسطينية، رغم نظام "الكوتا" الفصائلي سيء الصيت، دوراً هاماً في وحدة الشعب الفلسطيني والدفاع عن حقوقه الوطنية والسياسية. ويمكن القول أن هذه النقابات كانت "حصة" الطبقات الشعبية في "الثورة" و"منظمة التحرير" كالإتحاد العام (للطلبة، العمال، الكتاب والصحفيين، الأطباء، المهندسين...الخ ) قبل أن تهيمن "حركة فتح" على كل المؤسَّسات الفلسطينية، وإندثار هذه القوى الشعبية وتشييعها إلى مثواها الأخيرة مُذ دخلت قيادة م ت نفق مؤتمر مدريد التصفوي 1991 ومرحلة أوسلو بتأسيس السلطة العميلة عام 1994
لقد جرى تدمير منهجيّ مَدروس لهذه الإتحادات النقابية في الشتات أولاً، ومن بينها "اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين" الذي عاد الحديث عنه مؤخراً من باب "نقابة الصحفيين في الضفة وغزة" ومرة أخرى، وفق ثقافة القطيع ونظام الكوتا ذاته، مع مواصلة تهميش دور الفلسطينيين في الشتات وفي الداخل المحتل 1948
وباسم "الخصوصية" و "الأولويات" و"الواقع الجديد" جرى تفريغ هذه الاتحادات النقابية من مضمونها الوطني والشعبي والنقابي، بل أصبحت عنوانا للتشظي والخلافات والفرقة بدل أن تكون مصدراً للوحدة والرقابة الشعبية المستقلة.
باندثار هذه الإتحادات النقابية، قبل 30 عاماً، خسرت الطبقات الشعبية الفلسطينية كل شيء، لم يعُد للفئات العمالية سلاحاً منظماً في قبضتها للدفاع عن حقّها في المشاركة، وهذا عنى في الواقع تدمير مؤسسة "المجلس الوطني الفلسطيني" الذي شكلت الاتحادات النقابية قاعدة الرئيسية، وتحولت النقابات الفلسطينية في الضفة والقطاع إلى "مكاتب" و"مقار" خاوية، وأداة مخترقة سياسيا وأمنياً، يجري توظيفها من قبل البرحوازية الفلسطينية للدفاع عن السياسة الرسمية الفلسطينية وتبريرها.
لا غرابة اذن أن يتربع "الأمين العام لإتحاد العام لنقابات فلسطين" السيد شاهر سعد في موقعه ويبقى فيه منذ نحو 40 عاماً، كما لا غرابة في أن يلعب "الاتحاد" دوراً في التطبيع مع العدو الصهيوني وبخاصة العلاقات المشبوهة مع "الهستدروت" (نقابات العدو) وأنصار "السلام" و "حل الدولتين"! لقد تحولت العديد من "النقابات" إلى جسور للتطبيع والتدجين وصناعة "الانقسام"
أسَّست "طبقة أوسلو" لكيان فلسطيني هجين، لا شكل له ولا روح، فانتشر الفساد السياسي والمالي والأخلاقي والإداري في كل أجهزة السلطة بما في ذلك داخل النقابات العمالية والإتحادات الشعبية. في الوقت ذاته، تُرِكت الطبقات والفئات الشعبية الفلسطينية في العراء تواجه مصيرها، وتعتمد على سوق العمل العبري، واليوم بعد ثلاثة عقود من الزمن وصلت معدلات البطالة إلى نحو 45 % في الضفة و55 % في قطاع غزة المحاصر. ولو سألت عمال فلسطين، أو صحفيو فلسطين، عن دور "نقابتهم" ستسمع الجواب ذاته: أيّ نقابة؟
هذا الواقع أسس له اتفاق أوسلو الكارثي حين شرّع الباب واسعاً أمام إنتشار ظاهرة "المنظمات غير الحكومية" التي أصبحت الضلع الثالث في بنية وهيكل الاقتصاد الفلسطيني المحلي. فهذه الظاهرة المدمرة تسللت إلى الجسد الفلسطيني كالسرطان الخبيث في مرحلة الانهيار حين جرى اجهاض الانتفاضة الشعبية الكبرى 1987 التي لعبت فيها نقابات وعمال فلسطين دوراً مركزياً وقيادياً هاماً. وفقدت الحركة الوطنية الفلسطينية وحدتها ومناعتها وعناصر قوتها، لأن ألـ "ان جي أوز" ومؤسسات السلطة بلعت النقابات وجلست مكانها، وهضمت آلاف الكادرات الوطنية في مؤسساتها الجديدة، وسلبت قواعد اليسار تحديداً كادراته وطاقاته التنظيمية، وهمّشت أطر العمل الأهلي والنقابي والنسوي، ودجنت آلاف المناضلين/ات في تشكيلاتها "المدنية" حولتهم إلى جيش من الموظفين وقوى ليبرالية مغربنة تدعو للتكيف مع الواقع وشروطه
أمام هذه الصورة، وما أفرزته مرحلة أوسلو من نتائج وتداعيات خطيرة، وجدت الطبقات الشعبية الفلسطينية نفسها على قارعة الطريق، في الوطن والشتات، بل أصبحت "خارج المشهد الوطني" كله. فلم تعد ممثلة في مؤسسات منظمة التحرير التي ماتت، وهكذا خسرت موقعها لصالح البرجوازية والسلطة العميلة، كما جرى سحق الاتحادات والمؤسسات الشعبية والنقابية وتهديمها لصالح المنظمات الجديدة الممولة من الاتحاد الأوروبي وما يسمى "الدول المانحة"
إن المطلوب من المناضلين والمناضلات (ما تبقى منهم في الحركة النقابية الفلسطينية) وقوى المقاومة الفلسطينية، هو تأسيس إتحادات وطنية ونقابية جامعة وموحدة في الوطن والشتات، تكون بمثابة الدرع للحقوق النقابية من جهة، والصمغ الوطني والنقابي الذي يجمع طاقات الشعب الفلسطيني ويساهم في تحقيق وحدة طليعتها الوطنية من جهة أخرى.. وبهدف صهرها في مجرى حركة التغيير الثوري الديمقراطي واستعادة مشروع العودة والتحرير، وليس التورط في إعادة إنتاج تشكيلات هلامية وفارغة، فاقدة للشرعية وللدور الوطني والنقابي على حد سواء.