القاهرة – الرسالة نت
رغم وجود قناعة لدى كثيرين بأن الرئيس المصري محمد حسني مبارك لم يعد يحكم مصر فعليًا مقابل تمدد نفوذ نائبه عمر سليمان وبعض القيادات في الجيش، فإن مبارك يرفض جملة وتفصيلاً، الدعوات إلى تنحيه من مختلف الجهات بما فيها أطراف غربية حليفة له.
أولئك الذين يتعاملون وجهاً لوجه مع الرئيس المصري حسني مبارك - عربًا وأجانب - يقولون إنه يتقلب هذه الأيام بين الغضب والإحساس بالخذلان والحيرة إزاء ما يحدث ومحاولة تمسكه بالرصانة في وجه كل هذا.
ويعرف عن مبارك حرصه الكامل على الاستقرار بأي ثمن كان. والاستقرار في هذا السياق مفهوم يتسع ليشمل «استمرار الوضع الراهن كما هو».
لذا فهو يرفض، جملة وتفصيلاً، الدعوات إلى تنحيه من مختلف الجهات بما فيها أطراف غربية، كان يعتقد أنها حليفة، حتى وإن لم تكن صديقة.
وما يحدث في مصر الآن، وفقًا لتقرير مطول على صفحات «نيويورك تايمز»، ناتج طبيعي لخوف الرئيس المَرَضي من فكرة التغيير عمومًا، ولفخاره الشرس، وإيمانه المطلق بأنه الشخص الوحيد القادر على توفير الاستقرار لبلاده.
وتبعًا للصحيفة فإن هذه «الدراما السايكلوجية» لا تقل حجمًا عن «الدراما السياسية» التي تشهدها شوارع بلاده الآن.
ويوم الجمعة قال الرئيس الأميركي باراك أوباما إن مبارك كسر الحاجز النفسي المتعلق بالسلطة عندما أعلن انه لن يرشّح نفسه لولاية أخرى. لكن الأسئلة المتصلة بتخلي الرئيس المصري فعلاً عن الحكم وتحت أي ظروف وفي أي وقت تجبر فريق الأمن في إدارة أوباما على إعادة تقويم إستراتيجية التعامل معه مرارًا وتكرارًا. وهذه إستراتيجية تخضع للعين الفاحصة، سواء من جانب المطالبين برحيله أو الموالين له أو مسؤولي حكومته أو من جانب العالم العربي، ككل، أنظمة وشعوبًا. ولا يعرف مناصرو الديمقراطية في مصر أو المسؤولون الغربيون إلى أي درجة يتحكم فيها مبارك بالأمور.
وثمة اعتقاد في القاهرة وواشنطن أن نائبه المعين حديثًا، عمر سليمان، هو الذي يحكم مصر فعليًا. وتبعًا لمسؤولين أميركيين فإن رموز الإدارة الأميركية يتخاطبون مع سليمان منذ أن انتهت محادثة هاتفية لنصف الساعة بين أوباما ومبارك، ورفض فيها هذا الأخير الاستجابة لدعوة أوباما إلى الاستقالة.
لكن سليمان - وجنرالات آخرون في قمة الهرم العسكري - يحرصون على أن تبدو الأشياء وكأن مبارك هو الذي يحرّكها.
ويقول مسؤوون مصريون وأميركيون إن كل تلك الاعتبارات جزء من عملية دقيقة تهدف إلى تفادي أي تحدٍ لقناعة مبارك بأن استقالته أو شكل آخر من التنازل في وجه الضغوط سيقود إلى مطالب أخرى جديدة، ولذا فيجب ترك الأمر برمته في يده عندما يتعلق الأمر بأي تنازلات يقدمها ومتى. ويشيرون إلى أن المرء الذي يرفض شيئًا في بادئ الأمر قد يقبل به بعد حين باعتباره مبادرة منه هو نفسه.
ومبارك (83 عامًا) ليس بالهيّن أمام الصعاب والمحن. فقد شهد ثلاث حروب ونفذ بجلده من انتفاضة إسلامية ومن محاولتين على الأقل لاغتياله. وقبل سنتين فُجع بفقد حفيده محمد (ابن علاء) الذي توفي بمرض تمدد الأوعية، وهو في الثانية عشرة فقط من عمره.
وخلال كل ذلك الزمن، تبعًا لمسؤولين مصريين وأميركيين، ظل مبارك يؤمن بأنه الوحيد القادر على إنقاذ مصر من قبضة الإسلاميين عمومًا، وتحديدًا الإخوان المسلمين، الذين يلقي عليهم باللائمة في اغتيال سلفه أنور السادات ومحاولتهم اغتياله هو أيضًا معه.
ونقلت الصحيفة عن مسؤول مصري حجبت هويته قوله «لقد حقق مبارك السلام لمصر على مدى ثلاثين عامًا، ومن المأساوي أن ينتهي عهده في السلطة على هذا النحو. لكن يجب أن نقر بأنه وصل في وقت ما إلى نقطة فقد فيها الاتصال مع قطاع كبير من الشعب المصري». وسمات مبارك اليوم ليست جديدة، وظلت تميزه على مدى عقود. فقبل ثلاثين عامًا كتب ضابط في هيئة الاستخبارات الأميركي «سي آي ايه» يدعى بروس ريديل تقريرًا عنه خلص فيه إلى أن صعوده الى الرئاسة «سيصب لمصلحة واشنطن لأنه حذر ومحافظ وسهل التنبؤ بما سيفعله وموال للأميركيين».
ويبدو أن اغتيال السادات بوابل من الرصاص على بعد سنتمترات منه كان تجربة هزت وجدانه عميقًا. فصار يركن إلى أمان قصر عابدين بالقاهرة أو أمان مقره في منتجع شرم الشيخ. لكنه تمكن أيضًا من تحويل تفاديه المغامرة إلى خصلة. فصّور نفسه على أنه شخص بطولي ومن الحكمة، بحيث إنه فاحص مترو لا يتخذ قرارًا متعجلاً قد يندم عليه لاحقًا.
وساق ريديل مثالاً لذلك بحادثة في السبعينات عندما كان مبارك قائدًا لسلاح الطيران. فقد اعترض على خطة سوفيتية تقول بوجوب اختبار الدفاعات الجوية الإسرائيلية عبر التحليق بطائرات «ميغ 21» فوق سماء سيناء. ومع رفضه هذا اضطر السوفيات للقيام بالمهمة بأنفسهم، لكن المدافع الإسرائيلية أسقطت خمسًا من تلك الطائرات. ويخلص ريديل إلى القول: «مبارك هو مثال الشخص الذي يحقق النصر بامتناعه عن فعل أي شيء لنيله».
ويعتقد مروان معشر، سابقًا نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأردني، أن عمر سليمان سيأخذ بزمام المبادرة في فتح باب الخروج المتأني أمام مبارك. ويقول معشر، الذي يعمل حاليًا خبيرًا لشؤون الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في واشنطن «أعتقد أن سليمان سيفعل هذا، ولكن بنعومة ورفق. وإذا أخفت الرقة فأعتقد أنه سيُطرد عنوة».
ويقول المسؤولون الأميركيون الذين تعاملوا مع مبارك على مدى عقدين إنه "عنجهي" وغامض ولا يسمح بالكشف عن عواطفه ودواخل نفسه، ولا يثق في أحد غير قلة قليلة من دائرة ضيقة من المقربين إليه. وقد لجأ إلى مختلف أشكال العلاقات العامة وتلميع الصورة حتى يبقى مقربًا من الشعب.
في هذا الصدد فقد بدأ صبغ شعره بالأسود منذ وقت طويل حتى يبدو وكأن الزمن لا يغشاه، وعمّم على الناس فكرة أن طبقيه المفضلين هما الفول والفلافل، مثله في ذلك مثل القطاع الأكبر من الشعب.
وقد جاء في إحدى برقيات الدبلوماسيين التي سرّبها «ويكليكس» أنه تحدث في لقاء له مع النائب الديمقراطي الأميركي الزائر ستيف إسرائيل في مطلع 2008 عن ابنه جمال بالكثير من الفخر قائلاً إنه ساع إلى الكمال منذ صغره.
وقال: «إذا قدمت له كراسة، وهو طفل، ووجد أن أحد أسطرها مائل قليلاً عن البقية ألقى بها، وطالب بأخرى خالية من العيوب».
ووصف ابنه أيضًا بأنه «دقيق في الحفاظ على المواعيد، بحيث يمكنك ضبط ساعتك عليه». وتصف البرقيات المسربة أيضًا حرارة العلاقة بين مبارك وبنيامين نتنياهو، وأن الاثنين كثيرًا ما تبادلا آراء مشتركة عن الخطر الإيراني على المنطقة.
وتورد برقية قول الرئيس المصري للسناتور الجمهوري الأميركي ميتش ماكونيل إنه حذر الرئيس جورج بوش من مغبة إزاحة صادام حسين «لأن هذا يعني أن العراقيين «سيتنفسون» وهذا خطر كبير».
وجاء في برقية أخرى أن مبارك «مثال المصري العلماني الكلاسيكي الذي يكره تدخل التطرف الديني في السياسة».
وتقول البرقية «الإخوان المسلمون هم الخطر الأسوأ لأنهم لا يعارضون مبارك وحسب، وإنما آراءه في ما يتعلق بمصالح مصر أيضًا». وتمضي البرقية نفسها موضحة «مثلما هو الحال مع بقية الشؤون الإقليمية فإن مبارك يسعى إلى تفادي الصدام، فيحمي المصريين من نوع العنف الذي يعتقد أنه سينشأ عن إطلاق الحريات المدنية والشخصية».