رغم تدهور مكانة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلّة، والتحذيرات ممّا ستؤدّي إليه استراتيجية التصعيد العسكري والاستيطاني (الإسرائيلي) من إضعاف إضافي لها، لا تزال دولة الاحتلال تُراهن على إمكانية تأدية الأجهزة الأمنية التابعة لرام الله دوراً في تحقيق النتائج نفسها التي ظهرت في نابلس، في مناطق ساخنة أخرى مِن مِثل بلاطة وطولكرم وجنين، وإنْ بأدوات مغايرة لأسلوب التسويات الأمنية، مِن مِثل إثارة النعرات الحزبية، وتحييد الحاضنة الشعبية عن المشهد، ومن ثمّ القيام بدور وقائي لمنع انتشار ظاهرة خلايا المقاومة مجدّداً، في حال تمكّن الحملة الأمنية (الإسرائيلية) المرتقبة من استئصال البنى التحتية لخلايا المقاومة. وكانت الأجهزة الأمنية الفلسطينية قد تمكّنت من إقناع 15 عنصراً فاعلاً في مجموعة «عرين الأسود» بتسليم أنفسهم، والدخول في التسويات الأمنية.
ولا تعود بداية حكاية هذه التسويات إلى نهاية شهر تشرين الأوّل الماضي، أي عقب استشهاد القائد الشعبي الأبرز لـ«العرين»، وديع الحوح، حينما سلّم أربعة من قادة المجموعة الشهيرة سلاحهم. فقد اعتمدت الأجهزة الأمنية الأسلوب ذاته في تفكيك ظواهر مماثلة، مِن مِثل «فارس الليل» التي تُعدّ الحالة الأكثر قرباً إلى طبيعة ظاهرة «الأسود»، وهي مجموعات كانت قد تأسّست في عام 2002 على يد مقاتلي «كتائب شهداء الأقصى»، بقيادة نايف أبو شرخ الشهير بـ«القذافي» ومهدي أبو غزالة، ونشطت حتى نهاية عام 2007 في التصدّي للاجتياحات الإسرائيلية المتكرّرة للمدينة، قبل أن تتعرّض في نهاية العام ذاته لضربة أمنية إسرائيلية مركّزة، طاولت أكبر قياداتها الميدانية والروحية. وإذ أكملت الأجهزة الأمنية الفلسطينية مهمّة تفكيكها من خلال ممارسة أعلى مستويات الضغط على مَن تبقّى من عناصرها، فقد سجّل عام 2008 نهاية الظاهرة، بتسليم العشرات من المقاتلين سلاحهم، مقابل ضمانة قدّمتها السلطة بوقف الملاحقة من قوات الاحتلال، والتفريغ في صفوف الأجهزة الأمنية.
فكرة أكبر من التسويات
على أن «ما تركه العرين فكرة، عابرة للأشخاص»، بحسب ما يقول مصدر مقرّب من «العرين»، مضيفاً، في حديثه إلى «الأخبار»، إن «كلّ الحسابات الإسرائيلية ترى أن تحييد بعض القيادات عن القيام بدورها، يعني نهاية الحالة، لكن الواقع أن فكرة المقاومة وكسر جمود الواقع السياسي، ومكافحة المشروع الاستيطاني الإسرائيلي، تَمدّدت من جنين أساساً إلى نابلس، ومن البلدة القديمة إلى مخيم بلاطة الذي يتصدّر المشهد النابلسي حالياً، ومن بلاطة إلى مناطق جديدة ستفاجئ العدو بلا شك». في البلدة القديمة، تحوّل رموز «عرين الأسود» و«كتيبة جنين» إلى شخصيات ملهمة، وفق ما يلفت إليه المصدر ذاته، مضيفاً إن «أفكاراً وقدوات عصيّة على الاجتثاث هي الدافع الذي ينقل في كلّ يوم، شابّاً مدنياً يعيش همومه الذاتية، إلى مقاوم يحمل السلاح، ويطمح إلى تنفيذ فعل فدائي مؤثر». ويتابع: «حتى الشخصيات التي قبلت تحت ضغوط آنية بالتسويات، لا يبدو أن ثمّة تغيراً جذرياً طرأ على موقفها الوطني، هؤلاء يواصلون دورهم الملهم، وهم يعلمون أنهم لا يزالون عرضة للاغتيال أو الاعتقال من الإسرائيليين في أيّ لحظة».
ما صلح في نابلس، ذات الأغلبية «الفتحاوية» والطبيعة التجارية التي أنهكها الحصار الإسرائيلي، لم يفلح في مناطق أخرى
في هذا السياق، يشرح مصدر مقرّب من «عرين الأسود»، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «الأجهزة الأمنية وحركة "فتح" استغلّت الطبيعة العابرة للأحزاب التي جمعت مقاتلي العرين، الذين تجاوزوا عقدة العداء المفتعلة مع حركة "حماس"، واستغلّت أيضاً، الاحتضان الشعبي الواسع للظاهرة حتى من قِبَل عناصر "حماس"، وروّجت لمزاعم عن أن "حماس" تختبئ وراء "العرين" وحالات المقاومة، لتستعيد بناء عناصرها وقاعدتها العسكرية في الضفة، وتُكرّر سيناريو طرد السلطة وحركة فتح من غزة، في مدن الضفة». وبهذه الطريقة، يكمل المصدر، «استطاعت شقّ الصف الفتحاوي، بين مؤيّد لظاهرة العرين ومعادٍ لها، وجاء اعتقال القيادي مصعب اشتية في الثلث الأخير من شهر أيلول الماضي، وما رافقه من توتّر ومواجهات بين الأهالي والأجهزة الأمنية، ليُتمّ فصول الشرخ». ويلفت إلى أن «موقف الشهيد وديع الحوح كان أخوياً ومتقدّماً ومتجاوزاً لكلّ الحواجز الحزبية، وكان الاحتضان الشعبي لموقف وديع ورفاقه نقطة ضاعفت من حرج الأجهزة الأمنية، ثمّ أفسح اغتياله في نهاية تشرين الأول من العام نفسه، الطريق لمزيد من الاختراق في حالة العرين».
وعلى رغم أن عدداً من قيادات «العرين» الذين سلّموا سلاحهم أخيراً، كانوا قد رفضوا عرض التسويات بشكل متكرّر، إلّا أن الأجهزة الأمنية استطاعت دراسة كلّ حالة بشكل منفرد، وفق ما يفنّده المصدر، مضيفاً إن «الاحتلال، ومعه الأجهزة الأمنية، استطاع صناعة الظروف الضاغطة على كلّ قيادي، لدفعه إلى الخيار الذي يكرهه؛ فمثلاً اعتُقل شقيق أحد المطاردين، وهو الرجل الوحيد في عائلته الذي يرعى ذويه، كذلك، لم يكن مصادفة أن يُقتل شقيق أحد المطاردين أيضاً في داخل سجون الأجهزة الأمنية، ثمّ مارست قيادات تلك الأجهزة وقيادات حركة "فتح" ضغوطاً نفسية على عائلات المطاردين، لإقناع أبنائهم بتسليم السلاح، والقبول بعروض التسوية، بدعوى أن الاحتلال سينفّذ عملية اغتيال وشيكة لهم».
حيرة في طولكرم وجنين
غير أن ما صلح في نابلس، ذات الأغلبية «الفتحاوية» والطبيعة التجارية التي أنهكها الحصار الإسرائيلي، لم يفلح في مناطق أخرى، تمدّدت فيها كتائب المقاومة على نحو أكثر شراسة، مِن مِثل جنين وطولكرم، وحتى محافظة أريحا وعقبة جبر. هناك أيضاً، تُواصل الأجهزة الأمنية ممارسة الدور نفسه، لكن بأدوات ووسائل أخرى، أهمّها زرع الفتنة بين المكوّنَين «الفتحاوي» و«الجهادي»، وافتعال الإشكاليات بين الأجهزة الأمنية وخلايا المقاومة، لدفع «الفتحاويين» إلى الاصطفاف مع واحد من الفريقَين، وصولاً إلى تعرية المقاومين وإفقادهم حاضنتهم الشعبية. وفي هذا الإطار، يلفت مصدر في «كتيبة جنين»، في تصريح إلى «الأخبار»، إلى أن «الأجهزة الأمنية حاولت، ولا تزال، تغذية الخلافات الحزبية وافتعالها مع حركة فتح، بعدما عجزت تماماً عن إقناع أيّ كادر بالقبول بالتسوية الأمنية، لكنها تدرك أيضاً أن الولاء الفتحاوي في المخيم منحاز إلى شخصيات بطولية، مِن مِثل زكريا الزبيدي ومروان البرغوثي، ولا يرى في أبو مازن وقادة الأجهزة الأمنية أيّ رمزية يمكن أن يَدين لها بالولاء، ولذا، فإن مساعي السلطة تصطدم دائماً بالحالة الثورية النظيفة التي ترعاها أوساط عائلية وعشائرية، لم تلوّثها السلطة ولا سنوات الانقسام». وعلى خُطى جنين، تمضي الكتائب الفاعلة في طولكرم، حيث «ثمّة ارتباط روحي بالمقاومة في جنين، تعود أصوله إلى أبعد من بدايات الانتفاضة» كما يقول المصدر، مضيفاً إنه «حديثاً، كانت بدايات التأسيس لحالة طولكرم من مخيم جنين ذاته، على يد الشهيد سيف أبو لبدة الذي عاد وقضى نحبه في جنين». ويخلص إلى أن «فرص تقويض الحالة المقاومة عبر السلطة، متعذّرة»، مشيراً إلى أنه «لا خطوط تواصل بين السلطة والكتائب المسلّحة، ولا سلطة تنظيمية ولا عشائرية عليها».
المصدر: صحيفة الأخبار