غزة – الرسالة نت
لما تداعت قوافل المصريين إلى ميدان التحرير وسط القاهرة للاحتفاء برحيل (الديكتاتور) محمد حسني مبارك، تداعت قوافل الفلسطينيين في قطاع غزة إلى الشوارع، ليشاطروا المصريين فرحتهم.
في غزة لا نتحدث عن احتفالات عادية كتلك التي أحيتها الشعوب العربية ليلة الحادي عشر من فبراير، فالمعايدة التي تبادلها الفلسطينيون والمعانقة الحارة تعكس مدى فرحتهم برحيل نظام عربي ظالم كان جاثما كالجبل على صدورهم، وشارك في محاصرتهم.
وفي لحظات تحول ليل غزة البارد إلى ليلة عيد، خرج فيها المواطنون إلى شرفات منازلهم وأطلقت اعيرة نارية كثيفة في مناطق متفرقة من القطاع ابتهاجا برحيل الرئيس المخلوع، وجابت مواكب السيارة الشوارع الرئيسية في غزة، مطلقة الأبواق احتفالاً، وربما هذا الأمر يقود للسؤال :ما سر هذه الفرحة؟.
جار عزيز يعاني
ويعتبر قطاع غزة جاراً عزيزاً لجمهورية مصر العربية، يرتبط معها جغرافيا وتاريخيا وأمنيا واجتماعيا، ومؤخرا ارتبط بها اقتصادياً، لكنه عانى من نظامها الذي سقط تحت وطأة (ثورة الشباب)، مثلما عانى فقراء المصريين والمضطهدين والمعتقلين السياسيين.
وإلى حد كبير وقفت غزة خلف ثورة 25 يونيو، التي نادت بأسقاط نظام مبارك، خاصة وأن شريحة مصرية عريضة تعلم يقينا أن النظام المصري، ساهم بشكل او بأخر في حصار غزة الذي فرضته إسرائيل منذ فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية يناير 2006.
وبرحيل (الدكتاتور) تصدق نبوءة مقولة "التاريخ يعيد نفسه"، حيث أن هزيمة الجيوش العربية على أرض فلسطين عام 1948، كانت سببا رئيسيا في تفجير ثورة 23 يوليو 1952 بقيادة الضباط الأحرار الذين استفزتهم الهزيمة العسكرية، وتوصلوا إلى استنتاج بأن فساد أوضاع الحكم في مصر آنذاك كان أحد أسباب احتلال فلسطين.
وكانت قد تولت القيادة المصرية في خمسينات القرن الماضي، إدارة قطاع غزة، فيما خضعت الضفة الغربية إلى الإدارة الأردنية، وذلك عقب نكبة 1948.
ولأن النظام المصري السابق كان حليفاً قوياً لإسرائيل ولسلطة الفلسطينية، لم يرق له صعود إسلاميين كـ(حماس) إلى سدة الحكم، لذا عمد إلى تضييق الخناق على القطاع بالتزامن مع العزلة الدولية التي فرضتها عليه عدة أطراف أهمها "إسرائيل" والاتحاد الأوروبي وواشنطن.
ولما أضحى معبر رفح البري بين القطاع ومصر؛ نافذة غزة الوحيدة على العالم، بفعل إغلاق المعابر التجارية الأربعة، امتنع النظام المصري عن فتحه بموجب بروتوكول المعابر بين السلطة ومصر والاتحاد الأوروبي، الأمر الذي فاقم معاناة مليون ونصف المليون مواطن كانوا يقبعون تحت الحصار الخانق الذي فرضته "إسرائيل".
ولم يستجب النظام السابق للمناشدات الحقوقية الدولية المنادية بفتح معبر رفح أمام الحالات الإنسانية كالطلبة، والحجاج، والمرضى الحاصلين على تحويلات للعلاج بالخارج.
وبلغ عدد ضحايا الحصار من المرضى الممنوعين من السفر لتلقي العلاج نحو 350 ضحية، حسب تقديرات وزارة الصحة بغزة.
وسبق أن صرّح قادة النظام المصري البائد, بأن معبر رفح موضوع سيادي مصري ولن يعمل إلا وفق بروتوكول المعابر الذي أبرم بين السلطة والاتحاد الأوروبي، مشددا على ضرورة وجود المراقبين الأوروبيين على المعبر.
الغزيون مسجلون خطر
وتعمد النظام المصري السابق إذلال الغزيين المغادرين عبر معبر رفح، حيث تعامل مع المئات منهم كمسجلين خطر، واقتاد العشرات إلى السجون المصرية، واخضع المئات إلى التحقيق، فيما ابتز المرضى ورفض إدخال عدد منهم إلى أراضيه لتلقي العلاج.
وحسب شهادات عدد من المفرج عنهم من السجون المصرية، فإن الأمن المصري كان يعتقل نحو ثلاثين فلسطينيا، من بينهم قادة عسكريون مطلوبون للاحتلال الصهيوني، دون أن يوجه لهم أية تهمة تذكر، فضلا عن قتل المواطن يوسف أبو زهري خلال التحقيق معه في سجن ابو زعبل المصري.
وزادت حدة التوتر بين حركة حماس التي تدير قطاع غزة منذ حزيران/ يونيو 2007 والنظام المصري السابق، إثر محاربة الأخير "للأنفاق" الواقعة أسفل الحدود المصرية- الفلسطينية، لتأكيد حسن النوايا ’للإسرائيليين والامريكيين، وهو مما تسبب في قتل العشرات من الفلسطينيين.
وفي ذروة الحصار المطبق، يناير 2008 لجأ الفلسطينيون إلى هدم السور الحدودي الفاصل بين مصر والقطاع، بغية التزود باحتياجاتهم من العريش، وكان قد صرح الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك آنذاك بأنه لن يسمح بتجويع الشعب الفلسطيني.
إلا أن التصريحات التي أعقبت فتح الحدود، خصوصا تلك الصادرة عن وزير الخارجية المصري السابق أحمد أبو الغيط، الداعية إلى كسر ساق كل من يجتاز معبر رفح، قد أثارت حفيظة الشعب الفلسطيني.
جدار يعمق الفجوة
وتعمقت الفجوة بين الغزيين والنظام المصري الحاكم، بعدما أقدم الأخير في ديسمبر 2009 على إقامة جدار فولاذي على الحدود مع غزة، بزعم حفظ الأمن القومي.
وقد قدمت الولايات المتحدة الأمريكية ما يزيد عن 116 مليون دولار إلى مصر على شكل مساعدات عسكرية لتعزيز أمن حدودها ومكافحة التهريب عبر الأنفاق. وقد شملت تلك المساعدات نظام دعم ورادار متحرك للمراقبة الأرضية ونظام للكشف عن أنشطة الأنفاق الحدودية، وفقاً لهيئة الأبحاث في الكونجرس.
وظل نظام الرئيس المخلوع، الذي يحظر عمل الحركات الإسلامية في بلاده، مواليا لإسرائيل وأمريكا لوقت طويل. والتزم مبارك باتفاقية السلام (كامب ديفيد) التي ابرمت في 17 سبتمبر 1978 بين الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات ورئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن، والتي على أثرها علقت عضوية مصر في جامعة الدول العربية من عام 1979 إلى عام 1989 .
وقد أثار إعلان وزيرة الخارجية الصهيونية السابقة "تسيبي ليفني"، عقب لقاءها الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك في القاهرة، الحرب على غزة خريف 2009، التي راح ضحيتها ما يزيد عن 1600 شهيد، استهجان فلسطيني وعربي واسع.
وهذا الأمر يقود للكشف عن تلقي حركة حماس في غزة، تطمينات من قبل القيادة المصرية قبل يوم واحد من الحرب الماضية، في حين أن الضربة الأولى للحرب جاءت مباغتة وموجعة وخلفت ما يزيد 300 شهيد, وفق مصادر مطلعة.
وحالت مصر مرارا دون إدخال قوافل المساعدات المتضامنة مع قطاع غزة المحاصر، خصوصا تلك التي كان يقودها النائب البريطاني السابق "جورج جالاوي"، فضلا عن اعتداءها بالهراوات على عشرات المتضامنين الأجانب الذين اتهموا النظام المصري بمحاصرة غزة.
تصاعد أزمة
وتصاعدت حدة الأزمة بين حماس والقاهرة عقب اتهام الأخيرة بقتل جندي مصري على الحدود مع غزة في يناير 2010، أثناء احتجاج قاده فلسطينيون على الحدود تضامنا مع أعضاء قافلة شريان الحياة3 الذين جرى الاعتداء عليهم من قبل الأمن المصري ومنعوا من دخول غزة.
في موضوع آخر فإن للتحالف بين النظام المصري السابق والسلطة الفلسطينية، انعكاس سلبي كبير على المصالحة الفلسطينية، حيث تعتبر فصائل فلسطينية أبرزها حماس، أن القاهرة لم تكن وسيطا نزيها بين الفلسطينيين.
واشترطت القاهرة على طرفي الصراع على الساحة الفلسطينية (حماس، وفتح)، التوقيع على ورقة المصالح التي اعدتها، غير ملتفته إلى الملاحظات التي تسجلها حماس على الورقة.
ويبدو في رفض مصر للتدخل التركي الأخير في يونيو 2010، في ملف المصالحة، دليلاً واضحاً على أن القاهرة كانت معنية بقيادة دفة الانقسام الفلسطيني.
واستظل المفاوض الفلسطيني (السلطة) بالدعم المقدم من قبل النظام المصري المخلوع، كثيراً، حيث كانت القاهرة قبلة الرباعية العربية (مصر، الأردن، السعودية، الامارات)، وهم الاطراف المعنيون بإحراز تسوية سياسية، من شأنها إنهاء الصراع القائم في الشرق الأوسط.
وكشفت مؤخرا قناة الجزيرة وثائق سرية، توضح حجم التخاذل الكبير للمفاوض الفلسطيني إزاء الحقوق والثوابت الفلسطينية، وهو ما يعكس تورط أنظمة عربية كبيرة من بينها النظام المصري السابق في التخلي عن الدعائم الرئيسية للقضية الفلسطينية.
صفقة التبادل
وعلى المستوى السياسي الفلسطيني أيضا فإن النظام المصري السابق كان يمثل رأس الحربة في إدارة ملف فلسطيني مهم وهو "صفقة تبادل الأسرى" بين حركة حماس و"إسرائيل".
ورغم دخول ألمانيا للعب دور الوسيط في هذا الملف، إلا أن المخابرات المصرية ظلت متمسكة بالإشراف عليه ومتابعته سرياً، لأن إتمام صفقة التبادل- كما يرى مراقبون - يعد انجازاً عزيزاً لمصر.
وبرحيل مبارك وحاشيته، فإن ملف التبادل سيبقى معلقاً، إلى حين ترتيب أوراق مصر التي لا تزال تحتفي بنتائج ثورتها.
وكانت قد طالبت إسرائيل من حليفها الأقوى "واشنطن" خلال زيارة لوزير الحرب الصهيوني "إيهود باراك" سبقت تنحي مبارك بأيام، بتخفيف الضغط الممارس على النظام المصري، والسعي إلى الحفاظ على استمرار بقاء مبارك في سدة الحكم.
وربما ما سرّبه موقع «ويكيليكس» الالكتروني، قبل أيام، عن علاقة وزير المخابرات المصرية السابق عمر سليمان، "غير العادية"، بإسرائيل، واعترافاته بتجويع غزة، وتأييد قيام "إسرائيل" بإعادة احتلال محور "فيلادلفي"، أصاب قطاع غزة بصدمة كبيرة.
ويتطلع الشعب الفلسطيني في غزة، بسياسييه ومواطنيه، بعد رحيل "الدكتاتور" إلى فتح معبر رفح البري، وتسهيل حركة الوافدين والمغادرين دون وضع عراقيل أو التعامل معهم كمسجلين خطر.
ويمكن أن يكون لفتح معبر رفح، المعبر الوحيد على الحدود بين قطاع غزة ومصر، والسماح بإدخال الإمدادات الإنسانية إلى غزة تأثير مباشر على سبل عيش 1.5 مليون فلسطيني يعيشون هناك، وفقاً لتقديرات مسئولين في غزة.
وقال وزير الشؤون الاجتماعية في غزة، أحمد الكرد : "إن من شأن فتح معبر رفح أن يغير الموقف برمته في غزة(..) الناس بحاجة ماسة إلى المواد وبصفة أساسية الإمدادات الطبية ومواد البناء".
بيد أن وزير الصحة د.باسم نعيم عبر عن قلقه بشأن أكثر من 1,000 مريض يحتاجون إلى الخروج من غزة كل شهر من أجل الحصول على علاج عاجل، وذلك في ضوء إغلاق معبر رفح منذ بدء الثورة المصرية في 25 من يناير الماضي.
ووفقا لما نقلته شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) عن مدير هيئة المعابر والحدود في قطاع غزة، د.غازي حمد فإنه "لو تم فتح معبر رفح أمام السلع التجارية والإنسانية، يمكننا إدخال الوقود والكهرباء ومواد البناء إلى غزة ولن نكون حينها معتمدين على إسرائيل لفتح معابرها".
ويمكن لهذا الممر التجاري أن ينعش اقتصاد غزة المحتضر ويقدم للفلسطينيين وصولاً مباشراً إلى الخليج وأوروبا التي تعد الأسواق الأكثر ربحاً للصادرات الفلسطينية.
كما سيحل اختصار وقت الوصول إلى الأسواق واحدة من أكثر المشكلات الملحة لمزارعي الزهور والفراولة في غزة الذين يواجهون حالياً درجة عالية من عدم اليقين في نقل منتجاتهم القابلة للتلف عبر المعابر الحدودية.
وستظل غزة واضعة يدها على قلبها، إلى أن يتشكل النظام المصري الجديد، الذي ترجو منه انهاء الحصار، والإشفاق بالمحاصرين.