في مثل هذه الأيام وقبل أعوام، دارت رحى الحرب حسب التوقيت القسامي؛ فانبرى فرسان الجناح العسكري لحركة حماس يلقنون جنود جيش العدو دروساً في الفنون القتالية لم يألفوها في أرقى الكليات والأكاديميات العسكرية، مجرعين إياهم وفي المقدمة منهم ألوية النخبة مر العلقم وهوان الهزيمة، مسطرين بأدائهم العسكري الرفيع أروع ملاحم البطولة والفداء.
تمادى جيش الاحتلال بعدوانه على الأبرياء العزل من سكان قطاع غزة خلال معركة العصف المأكول عام 2014م، فصدر الأمر من قيادة كتائب القسام ووفق الخطة القسامية المعدة مسبقاً، بتنفيذ عملية هجومية خلف خطوط العدو باستخدام أحد الأنفاق الاستراتيجية المجهزة لهذا الغرض.
موقع القسام وفي ذكرى معركة العصف المأكول يعود لنشر التفاصيل الكاملة لعملية الإنزال خلف خطوط العدو، واقتحام موقع عسكري تابع لكتيبة ناحل عوز، والتي قتل فيها 10 جنود، ونشرت كاميرا القسام من هذه العملية أقوى المشاهد التي كانت عاملاً مهماً في حسم المعركة، وسمع فيها الصهاينة صراخ جنودهم وهم يداسون تحت أقدام المجاهدين.
الرصد والإعداد
بعد طول عناء وجهدٍ ومشقةٍ، تنفس المجاهدون الصعداء حينما وضعوا اللمسات الأخيرة في النفق الذي أُعد لتنفيذ عملية "ناحل عوز"، وكان ذلك وفقاً لتعليمات قيادة القسام، متخطين كل الصعاب والعراقيل التي واجهتهم على مدار فترة العمل.
وعلى الفور تداعت غرفة العمليات القسامية ووضعت أمامها كل التفاصيل التي رصدتها وحدات الرصد إضافة لخرائط وتصويرٍ جويٍ لمواقع العدو، وكانت القيادة تعرف المناطق خلف خطوط العدو بشكلٍ دقيق للغاية، وقبل التنفيذ بأيامٍ توجه مجاهدو القسام للرصد، وأكدوا على المعلومات الموجودة لدى قيادة الجهاز ليتم التطابق المعلوماتي قبل تنفيذ العملية، حيث كانت المعلومات تتدفق باستمرار قبل أسابيع من تنفيذ العملية.
تأكدت القيادة أنه سيكون لدى المجاهدين رؤيةٌ واضحةٌ حول طبيعة الهدف، ومطابقةٌ لما تدربوا عليه، كما تم التأكيد بتصوير نهائي لمسرح العملية قبل التنفيذ، وتم عرضه على المجاهدين المكلفين بتنفيذ العملية.
النزول للنفق
هنا تبدأ رواية الاستعداد والجهوزية على لسان قائد المجموعة المنفذة لعملية ناحل عوز، حيث توضأ المجاهدون وصلوا ركعتين وتفقدوا عتادهم العسكري، منتظرين إشارة الانطلاق نحو ساحة المعركة، إلى أن جاءت الأوامر بالتحرك نحو المكان المتفق عليه، وهناك شرح لهم قائد ميداني خطة التحرك ثم نزلوا إلى نفق العملية بهمةٍ عالية.
مكث المجاهدون في النفق 24 ساعة قبل تنفيذ العملية، ولم ينقطع التواصل مع القيادة من بداية العملية إلى نهايتها، ثم بدأوا بالتعرف على تفاصيل المكان الذي سيتم مهاجمته، وتم توزيعهم وتكليف كل منهم بمهمةٍ محددة ووُزع العتاد العسكري والمجاهدون وفق تخصصاتهم القتالية.
بعد وصول المجموعة إلى عين النفق خرج قائد العملية من العين عدة مراتٍ لرصد واستطلاع الموقع، فبعد رصد الموقع من عين النفق، كرر الخروج مرة أخرى مستكشفاً المكان بالكامل، ثم عاد إلى النفق مجدداً.
وفي المرة الثالثة خرج قائد العملية ونائبه للرصد، وتحرك قائد العملية متخفياً بزي تمويه وتعرف على طبيعة المكان وراقب حركة الآليات قبل أن يعود ونائبه إلى النفق، ويعطي تغذية راجعةً للقيادة.
ساعة الصفر
صلى المجاهدون العصر داخل النفق ثم كان القرار بالانقضاض على الهدف المحدد ومباغتة جنود العدو في ثكنتهم العسكرية، كان قائد العملية الأول خروجاً من عين النفق وناوله أحد المجاهدين القذائف، ثم خرج الباقون من النفق وتحركوا صوب الثكنة العسكرية من خلال الساتر، وأثناء التحرك كانت طائرات الاستطلاع على ارتفاعاتٍ منخفضةٍ جداً ومناطيد الاحتلال تراقب المكان بدقةٍ ولكن الله عمى عن المجاهدين.
تمركز المجاهدون وفق تعليمات قائد العملية قرب موقع المراقبة والسيطرة لوجود سواتر وأشجار عباد الشمس، وتقدم قائد العملية ونائبه نحو الموقع، فيما بقية المجاهدين موزعين وفق خطة الهجوم، ثم تقدم المجاهدون نحو بوابة الموقع فرأوا جندياً صهيونياً أسفلها وقد بادل المجاهدين النظرات ولكنه لم يحرك ساكناً من هول الصدمة.
فتح المجاهدون البوابة والتفوا عن يمين البرج العسكري فعثروا على عدد من جنود الاحتلال فعاجلوهم بإطلاق النار من مسافة صفر، فصرع الأول والثاني، ولم يقم باقي الجنود بإطلاق النار أو الاشتباك مع المجاهدين، فأجهز المجاهدون عليهم وسط تعالي أصوات صراخهم، وفي الوقت ذاته أطلق بعض المجاهدين النار على البرج العسكري، ليتم تحييد البرج وإتاحة المجال أمام بقية أفراد المجموعة للسيطرة على ميدان العملية بشكلٍ كاملٍ.
محاولة أسر جندي
تقدم المجاهدون نحو الجندي الذي تبين لهم أنه لا زال على قيد الحياة، مدركين أنه يشكل صيداً ثميناً، فقاموا بسحبه واستخلاص سلاحه من نوع "تافور" ومزقوا جعبته العسكرية، وهنا بدأ الجندي يحاول الإفلات من المجاهدين ويصرخ، فقام المجاهدون بضربه في محاولة لإخضاعه، ثم قاموا بسحبه إلى أن وصلوا به إلى بوابة الموقع الخارجية.
يؤكد قائد المجموعة أن الجندي كان خائفًا كثيراً، ولم يتكلم بأية كلمة، فقط كان يصرخ وبشدة، ومع ذلك تم سحبه إلى بوابة الموقع، حيث أمسك بقدم المجاهد عند البوابة، فضربه أحد المجاهدين على يديه، فأفلت قدمه وتمسك بالبوابة بكل قوته فقام المجاهدون بقتله والانسحاب إذ لم يكن الوقت في صالحهم.
عودة المجاهدين غانمين
أنجزت المجموعة القسامية مهمتها في غضون دقائق معدودة على أكمل وجهٍ ثم انسحبت بما غنمته وفق الخطة القسامية، تاركةً خلفها جنود العدو مضرجين بدمائهم صرعى، وراسمةً علامات الصدمة والذهول في صفوف الجيش الصهيوني وقادته لجرأة فرسان القسام وبطولتهم النادرة.
واصل المجاهدون طريقهم وتمكنوا من الانسحاب من خلال النفق، وقامت مجموعةٌ مختصةٌ بتفجير عين النفق، وقد عاد المجاهدون بفضل الله سالمين غانمين، وهم يحملون قطعة التافور وكاميرا التصوير التي كانت تمثل بالنسبة لهم كنزاً يحمل البشريات لشعب فلسطين والأمة الإسلامية، وسيشفي الله بما سجلت من مشاهد صدور قوم مؤمنين.
سعادة غامرة
سعادةٌ غامرةٌ انتابت المجاهدين في طريق عودتهم من العملية إلى قواعدهم عن طريق النفق، إذ شفى الله على أيديهم المتوضئة صدور قوم مؤمنين، وثأروا لدماء الأبرياء في حي الشجاعية الذين دُمرت بيوتهم وشُردت نساؤهم وأطفالهم وشيوخهم.
وبينما كان المجاهدون يصلون المغرب والعشاء جمعاً ويبكون متضرعين إلى الله، شاكرين فضله وكرمه، وصلت أخبار العملية البطولية التي نفذت من بين ركام حي الشجاعية إلى جماهير الأمة والمكلومين في قطاع غزة، لتصلهم بعد ذلك المقاطع المصورة التي شفت صدورهم بعد أن رأوا بطولات فرسان القسام وهم يدوسون بأقدامهم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، حينما بثت كتائب القسام لقطات للعملية البطولية، ولكن الحال كان مختلفاً على الجانب الآخر حيث وقع الأمر كالصاعقة على جنود الاحتلال وقيادتهم وجمهور العدو الذي لطالما صدّق أكاذيب جيشه وقيادته.
عاد المجاهدون إلى قواعدهم تحفهم رعاية الرحمن بعدما أذاقوا جنود الاحتلال وبال أمرهم، فخلفوا وراءهم جنود الاحتلال صرعى، وبثوا الرعب في صفوف جيش الاحتلال المنهزم على أعتاب غزة، عادوا وهم أكثر شوقاً لمعاودة الكرة على حصون العدو الغاشم، مستبشرين بوعد الله عز وجل ونصره لعباده المؤمنين.
وبعد أعوام من العملية قرر العدو تفكيك الموقع العسكري، محاولا اخفاء فشله وخيبته التي مني فيها خلال معركة العصف المأكول، ولتسجل العملية وغيرها من العمليات خلف الخطوط نقطة تحول جديدة في تاريخ الصراع، ولترسم ملامح التحرير الذي بات أقرب من أي وقت مضى، وما ذلك على الله بعزيز.