أشارت روايات لسجناء فلسطينيين سابقين عن فظاعة السجن رقم 1391، أو (غوانتانامو إسرائيل)، كما يطلق عليه البعض، والذي كان مُقاماً في منطقة غير مأهولة، وكُشف عنه لأول مرة في عام 2003.
يقول نواف العامر، المعتقل الفلسطيني السابق في السجن، إنه لم يكن يعلم أين هو ولماذا هو حبيس السجن شديد الحراسة، وكان يشعر بأنه في «عالم آخر، عالم من الظلام والصمت والألم»، وكان يسمع صوت نفسه يصرخ في رأسه، لكن لا أحد يسمعه.
والعامر اعتُقل عام 2002، ووجد نفسه فجأة في مكان مجهول قال له المحققون بعدها إنه السجن السري.
يقول إنه كان يحاول تذكر تفاصيل حياته، قبل أن يأتي إلى المكان، «ولكن كل شيء كان مبهماً وغير واضح». ويقول، لـ«وكالة أنباء العالم العربي»: «هناك يفقد الأسير الشعور بالزمان والمكان.. كان الظلام يحيط بي من كل ناحية، لم أكن أستطيع الجلوس، ولا النوم. عندما فتحوا باب الزنزانة سمعت صوت حركة الباب، وكأنه باب قلعة ضخمة حصينة، ومن الصعب أن يفتحه شخص واحد».
ويعتقد العامر أن مبنى السجن السري يعود إلى فترات ما قبل الاحتلال (الإسرائيلي) لفلسطين، وربما يكون قد شُيّد في زمن الانتداب البريطاني أو في العهد العثماني. ويضيف «سرير الزنزانة أسمنتيّ صغير وضيق... بالإضافة إلى القاذورات داخل الزنزانة نفسها».
في ذلك العالم المجهول، لم يكن مسموحاً له بأن يرى وجوه الجنود، وعند جلسة التحقيق ينادي الجندي من نافذة الزنزانة، ويطلب منه وضع قماش على وجهه ورأسه، ويُجبَر على الاستدارة نحو الحائط ورفع يديه.
ويتابع روايته قائلاً «يدخل الجندي الزنزانة لتقييد قدميَّ، وبالأساس يداي مقيدتان، ثم يأخذني إلى غرفة التحقيق. وقبل اقتيادي إليها، يطوف بي داخل السجن، نصعد درجاً وننزل من آخر، ثم يأخذني إلى ساحة صغيرة أمكثُ فيها من 15 إلى 20 دقيقة، بعدها يأخذني إلى غرفة التحقيق».
وداخل غرفة التحقيق، كان يسمع العامر موسيقى صاخبة تتداخل معها أصوات معتقلين آخرين يصرخون؛ من شدة التعذيب. وقد أمضى العامر 54 يوماً داخل السجن الذي شبّهه بالمقبرة المظلمة، ويكاد يجزم بأن حكايات معتقلين آخرين قد تكون أشد قسوة من تجربته.
المصير المجهول
تفاصيل كثيرة للتجربة نفسها عاشها المعتقل راغب بدر، الذي أمضى في السجن السري 46 يوماً. ويعتقد بدر، الذي اعتُقل عام 2003، أن فلسطينيات اعتُقلن أيضاً في السجن السري. ويقول: «في إحدى المرات سمعت صوت امرأة تصرخ.
ظننت في البداية أنها مجنَّدة (إسرائيلية)، لكن بعد دقائق سمعت جندياً يُدخلها زنزانة وتبكي، بعدها دخلت غرفة التحقيق». وتحدَّث المحامي فارس أبو الحسن، الذي كان مهتماً بقضية السجن السري، لـ«وكالة أنباء العالم العربي»، عن اختفاء أشخاص لم يُعرَف مكانهم بعد اعتقالهم.
يقول: «تابعت قضية شخصين اعتقلهما الجيش (الإسرائيلي). ذهبت إلى أغلب السجون لأبحث عنهما بتوكيل من ذويهما، لكن لم أتوصل إلى شيء، وظلّ مصيرهما مجهولاً». ويضيف: «بعد أكثر من شهرين، وصلتني معلومات أن هذين الأسيرين، وأحدهما نواف العامر، وصلا إلى سجن الجلمة بشكل مفاجئ.
وعندما تحركت إلى ذلك السجن، وجدتهما بحالة نفسية سيئة جداً، وتحدّثا لي عن هذا السجن السري الذي لم يكن يعرفه أحد من قبل».
ويعتقد أبو الحسن أن السجن السري لم يعد قائماً كسجن، أو أن الأمور تدور هناك بشكل أكثر سرية وتكتماً بفعل موجات الاحتجاجات والانتقادات التي طالته حتى من قِبل مؤسسات (إسرائيلية). يقول: «السجن السري لم يعد له أي ذِكر، فقد استُخدم في مرحلة من المراحل فقط. ولكن نتيجة الاحتجاجات وتسليط الضوء على الأسرى، الذين جرى نقلهم إلى هذا السجن، يبدو أن سلطات الاحتلال توقفت عن نقل أسرى جُدد إليه، أو أنهم يعملون بشكل سري جداً، دون الإفصاح عن أي شيء بشأنه».
رغم تأكيد (إسرائيل)، في رد رسمي على «لجنة مناهضة التعذيب»، التابعة لـ«الأمم المتحدة»، أن السجن أُغلق في عام 2006، عادت اللجنة نفسها في عام 2009 لتطالب (إسرائيل) بإغلاق جميع المعتقلات السرية، واعتبرت الرد (الإسرائيلي) غير كاف.
وتقول المحامية نادية دقة، التي تعمل لحساب منظمة حقوقية (إسرائيلية)، لـ«وكالة أنباء العالم العربي»، إن عدداً كبيراً من المعتقلين الفلسطينيين احتُجزوا في ذلك السجن، لكن العدد غير معروف بشكل دقيق.
وتضيف محامية «مركز الدفاع عن الفرد»، المعروف باسم «هموكيد»، والذي كان أول من كشف النقاب عن السجن السري: «لم نعرف مكان هذا السجن ولا شكله، لكن بعض المعتقلين الذين خرجوا منه قالوا إنه يشبه موقعاً أثرياً يعود لفترة الانتداب البريطاني».
وأشارت إلى أن هناك كثيرين من المعتقلين الذين اعتُقلوا في السجن 1391 لمدة تزيد عن 10 أعوام. وأضافت: «هناك معتقلون بحث عنهم مركز هموكيد، لكن لم نجد لهم أي أثر حتى الآن. وهناك معتقلون فُقدوا في هذا السجن منذ 20 عاماً، وفقاً للمعلومات التي توصّلنا إليها ولم نعلم عنهم أي شيء».
ويقول قدورة فارس، رئيس «هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينية»، إنه لا يمكنه الجزم بما إذا كان السجن السري ما زال موجوداً حتى الآن، لكنه يشير إلى موت فلسطينيين بصورة غامضة، ويقول: «هناك عدد من المؤشرات تُفيد بأن أشخاصاً اختفوا تماماً.
فقبل سنوات كشفت (إسرائيل) عن بعض الأسرى المفقودين. كان ذلك في عام 1995. كان من بينهم أسير أعرفه شخصياً وهو عماد الزقزوق، والكل يعرف عنه أنه اختفى». وتابع: «بعد مطالبات بمعرفة مصيره، سلَّم الاحتلال جثمانه لعائلته، دون التحقق من الجثة». وأضاف فارس: «لكن الصدمة هي أن أكثر من شخص قالوا لنا إنهم رأوه داخل السجن السري، وهناك أدلة وبيانات من هؤلاء الأشخاص بوجوده داخل هذا السجن».
ولفت إلى اختفاء أشخاص تماماً، سواء أكانوا مطارَدين أم اعتقلهم الجيش (الإسرائيلي) عبر الحدود. وقال: «لم يُشر إلى أن هؤلاء صُنّفوا من بين الشهداء، وهذه المؤشرات لا تقود إلا للوصول لقناعة يقينية بوجود هذا السجن».
وتابع: «التقيت أسرى محرَّرين أكدوا لي أنهم شاهدوا في الأَسْر بعض المفقودين، والذين جرى تصنيفهم بأنهم شهداء، وأفصحت (إسرائيل) بأنهم موتى في معتقل غير معروف». ويشير فارس إلى قضية فلسطيني يُدعَى داود الحاج، كان الجيش (الإسرائيلي) يطارده لسنوات طويلة، وفجأةً اختفى ولم يعرف أحد عنه شيئاً. ويتساءل: «أين ذهب الحاج؟ هل قتلته (إسرائيل) ودفنته، أم اعتقلته في سجن سري؟».