ينشد بصوت جبلي أغانيَ تهز القلوب وتؤرق مضاجع العدو، ينظر في عيون الحضور، يتوقف للحظة ويغصّ باكياً، تأثراً بأغنية "من سجن عكا" التي كان يغنيها حينها على أحد مسارح الكويت.
حسين منذر (أبو علي) المغني الرئيسي في فرقة "العاشقين"، صاحب الصوت الذي صدح ثورةً ونضالاً، ذو الحضور الطاغي والصوت القوي، يقف على المسرح شامخاً متجذّراً فيه كشجرة زيتون يصفّق بيديه فتشتعل الصالة تصفيقاً يعلو صوته وتعلو معه أيدي الحاضرين رافعةً أعلام فلسطين.
برحيل أبو علي يسدل الستار على تاريخ منشد غنى لفلسطين ما يزيد عن 300 أغنية، ومن أشهر أغانيه من سجن عكا طلعت جنازة، واشهد يا عالم علينا وع بيروت، وهبت النار..
كانت الانطلاقة الأولى لفرقة "أغاني العاشقين" من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سورية عام 1977، وكانت نواة الفكرة مع تقديم مسرحية (المؤسسة الوطنية للجنون)، التي ألَّفها الشاعر الفلسطيني سميح القاسم وأخرجها المخرج السوري فواز الساجر.
رأى القائمون على العمل أن يقوموا بإعداد بعض الأغاني لترافق المسرحية، فقام بالمهمة الشاعر أحمد دحبور الذي كتب الكلمات، ولحنها الفنان حسين نازك، فكانت أغنية (اللوز الأخضر) هي النواة الأولى لفرقة "أغاني العاشقين".
كانت النقلة في حياة الفرقة خلال "حفلة عدن الذائعة الصيت"، فمثلت علامة ونقطة تحول في جماهيرية العاشقين على المستوى العربي، بعدما حضر الحفلة قيادات منظّمة التحرير الفلسطينية وعلى رأسهم الرئيس الراحل ياسر عرفات، إلى جانب رئيس اليمن الجنوبي علي ناصر محمد، وسفراء عدد من الدول، وحشد جماهيري واسع، لتتوالى بعدها نجاحات الفرقة في مختلف العواصم العربية والعالمية..
كانت الانطلاقة الكبيرة للفرقة من خلال تسجيل أغاني المسلسلات التي أنتجتها دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية أواخر السبعينيات، حيث قدمت "فرقة العاشقين" أغاني مسلسل "بأم عيني" الذي يتحدث عن قصص واقعية حدثت للأسرى الفلسطينيين في السجون الصهيونية مع ما رافقه من تعذيب وإهانات، عام 1981.
كذلك أغاني مسلسل (عز الدين القسام)، عن قصة ثورة الشيخ السوري المجاهد الشهيد ابن مدينة جبلة السورية عز الدين القسام في فلسطين المحتلة ضد الاحتلال البريطاني الصهيوني، عام 1981.
وهنا برز حسين المنذر (أبو علي)، الصوت الجبلي القوي الذي يجمع القوة إلى القدرة على التعبير، ومن الطريف أن هذا الذي أصبح مغني فلسطين الأول، كان ذا لهجة شامية متميزة، وهو اللبناني البعلبكي، ابن المقاومة الفلسطينية، فهو مشروع عربي فلسطيني شامي لبناني بامتياز.
يقول في مقابلة سابقة: "أنا عربي وأعشق فلسطين. أعشقها عشقاً لا يوصف. دمي واسمي وعنواني عربي فلسطيني أحمل بداخلي كل المكوّنات العربية".
ورث منذر، كما يؤكد، عن والده الصوتَ الجبلي القوي الذي يحمل بين طبقاته كل مشاعر الثائر الفلسطيني من حب وغضب وأسى وحنين، ووظّف هذا الصوت في خدمة الفن الملتزم الذي يناصر القضية الفلسطينية.
«لي تجارب فنية كثيرة في البدايات قبل العاشقين، لكنّ عشقي للأغنية الملتزمة وتحديداً لفلسطين منذ نعومة أظفاري، تغلب عليّ ودفعني إلى تبني هذا اللون الغنائي الذي تُوج بانضمامي إلى الفرقة».
يرى منذر أن أي فرقة ملتزمة تحقق النجاح عندما تمتلك ثلاثة عناصر هي: الكلمة الصادقة واللحن الرائع والصوت الجميل، إذا كانت هذه كلّها مجتمعة هنا تبدأ النجاحات، وهو ما حقّقته الفرقة عندما كتب كلمات أغانيها أحمد دحبور وتوفيق زياد ونوح إبراهيم ولحّنها حسين نازك وأديت بأصوات جبلية واثقه بفلسطين وقضيتها.
غنّى منذر لثورة الـ 36 وخلّد أسماء الشهداء الثلاثة الذين أعدمتهم سلطات الانتداب البريطاني، وأشعل القلوب بمواويل الفلاح والثائر الفلسطيني، ووثّق بأغانيه أهم المراحل التي مرّت بها الثورة الفلسطينية.
أنجز أبو علي على مدى أعوام طويلة دوراً وطنياً مميزاً وحضوراً، ووثّقت تاريخ شعب يناضل لنيل حقوقه.
حمل الفنان الراحل الأغنية الفلسطينية وجال بها العالم ونقل صوت الشعب الفلسطيني وقضيته إلى مختلف المسارح العالمية
ومن أهم ما قاله الراحل منذر: "نضالنا في الفن الذي نقدمه. وستبقى القضية في عقولنا وقلوبنا وأصواتنا. نحن نغني لفلسطين. نحرر ونثور. نغني في الأعراس. نغني في الأفراح والأتراح. بكل مجال نغني وسنبقى نغني".