قائد الطوفان قائد الطوفان

أشكال من الثبات الأسطوري

غزة الصابرة تذهل العالم رغم الفواجع

غزة الصابرة تذهل العالم رغم الفواجع
غزة الصابرة تذهل العالم رغم الفواجع

الرسالة نت- رشا فرحات

ثمانية أشهر من الإبادة الجماعية المتواصلة يمارسها الاحتلال الإسرائيلي كهواية محببة ضد أهالي قطاع غزة، في هجمان برية وبحرية وجوية، أفقد خلالها كل مقومات الحياة.

حطمت الحرب النظام الصحي كاملا وأخرجت مستشفيات القطاع عن العمل، وأفقدت الناس بيوتهم، أموالهم، وحتى ملابسهم، ممنوع هنا دخول الدواء والطعام، ممنوع أن تنام في بيتك آمنًا، ممنوع أن تحيا وقد سرقت طائرات الاحتلال حياة عائلات بأكملها.

لكن كل ذلك يقابل، بصمود أسطوري منقطع النظير، لم ترصد كل المعارك والحروب على مدار التاريخ شبيها له، عاشه أهل غزة على مدار فصلين، حاربوا من تحت الخيام زخات المطر وريح البرد القارس وهي تنهش عظامهم، دون أغطية ولا ملابس كافية، مات بعضهم جوعًا، والبعض الآخر مات بردًا، ثم جاء الصيف بزمهرير ناره، إلى جانب نيران الاحتلال، تشتعل الخيام بالحر والعطش والموت المرتقب والذي يعرف أهالي القطاع بأنه لا يستثني أحدًا.

ورغم أن الوقت يحسب بالموت في غزة، ففي كل عشر دقائق يستشهد طفل تحت نيران القصف، ورغم كل ذلك قدمت غزة ولا زالت صورًا للصبر والثبات لم يستطع خبراء علم النفس والاجتماع تفسيرها ولا حتى توقع إلى أي مدى يمكن أن تصل درجتها، بعد أن تعرضوا على مدار ثمانية أشهر لكل صنوف الابتلاءات المتواصلة أمام كاميرات العالم، من قبل جيش فاق انحداره الأخلاقي كل توقعات العالم.

ولعل هذا الصبر الإعجازي كان حافزًا وسببًا لتضامن العالم معه، تضامنًا أدى إلى قلب الصورة تمامًا لصالح الفلسطيني وقضيته، وكان جسد الغزي الذي يذبل كل يوم هو الوقود لهذا التغيير، وحتى اليوم، ورغم ما تفرضه المصالح السياسية من صمت على القائمين عليها، فلقد كانت للشعوب كلمة أخرى، أمام هذا السيل الجارف من الإبادة الجماعية التي يتعرض لها سكان القطاع.

زينب سليمان، كانت في رحلة مع والديها إلى مصر حينما اندلعت الحرب في غزة، والغزي البعيد قاسى في هذه الحرب لوعة المتابعة الدائمة، تفتح التلفاز كل يوم منذ الصباح حتى المساء، تتابع أخبار المجازر وصور الدم، حتى أصبحت عائلتها هي الخبر، حينما قرأت خبر قصف منزل أخوالها عائلة حماد العروقي، وفقدت ستة وعشرين شخصا، بين خال وابن خال وزوجاتهم وجدتها.

كان وقع الخبر عليها وعلى أمها كبيرًا، وصعبًا، دون وداع: "لم أستطع وداعهم ولا مساعدتهم في انتشال الجاثمين، خالي الوحيد الناجي وقف أمام الأكفان وحده دون أن نواسيه".

لم يكن هذا المصاب الجلل إلا دافعًا لتلك العائلة للصبر والثبات، وحينما يفقد العزيز كل أحبته دفعة واحدة يفقد ما كان يراهن عليه، فلا يبقى له سوى أن يظل قويا لأجل أرواحهم التي فارقها دون وداع، وهكذا رددت زينب:" غزة صامدة ومن هدمت بيوتهم سيعودون للعيش فوق أطلالها في خيام، هذه الأرض لنا".

وحينما تدخل لمتابعة صفحة الدكتور جمال نعيم، أستاذ طب الأسنان في جامعة فلسطين لا يمكنك أن تخمن بأن هذا الشخص فقد سبعة من عائلته، بينهم أبناؤه، فهو على قدر غريب وكبير من الثبات، يحلل ويناقش وكأن الصبر خلق له على وجه الخصوص، طبيب الأسنان المرموق فقد بيته، وفقد سبعة أفراد من عائلته خلال قصف إسرائيلي استهدف منزلهم في دير البلح في قطاع غزة.

نعيم وصف ما حدث لهم في تلك الليلة  لوكالة أسوشيتد برس الأمريكية: "في الساعة 11 مساءً، تم قصف المنزل. أصابوا الغرفة التي كانت فيها بناتي. استشهدت أمي وبناتي الثلاث وأحفادي الثلاثة. هذه الدكتورة شيماء، 27 عامًا. هذا ما تبقى منها فقط جلد رأسها وشعرها، لم نجد غير ذلك"

الطفل كمال أبو طير أيضا يعرض بعد خمسة أشهر من إصابته صورته القديمة وهو يبكي ألما جراء إصابته، ولكنه الآن يضحك للصورة ويؤشر على يده ويقول "فيها بلاتين"، كنا في مخييم النصيرات حينما استشهدوا أخوتي وبقيت أنا ولكن إن شاء الله الله احنا ضايلين فيها مش خايفين وحنحرر فلسطين".

وقد قدم الوسط الصحافي صورة أخرى، بل تكاد تكون من النماذج الأكثر صمودا، في 12 نيسان الفائت، وبينما كان عدد من مراسلي وسائل الإعلام العربية والأجنبية في بثّ مباشر على الهواء، سقطت قذيفة بالقرب من الإعلاميين في مخيّم النصيرات، ممّا أدى إلى إصابة مصوّر قناة "تي آر تي"  سامي شحادة بجراح وُصِفت بأنّها بين المتوسطة والخطيرة، وبُتِرت قدمه، بالإضافة إلى إصابة مراسل القناة سامي برهوم بإصابة طفيفة.

 ولكن سامي شحادة فاجأ جمهوره بعد شهر، وقام على قدم واحدة ليلتقط الصورة من جديد وينقل للعالم مأساة أهالي القطاع قائلا وهو يرتكز على عكازه: "سأكمل رسالتي ولو على عكاز".

لم تكن غزة مدينة مختلفة عن كل المدن، ولكنها الحرب التي تكشف حجم الصبر فتميزت بصبر أهلها، ذلك الصبر ذاته الذي جعل فارس عنبر قائد فرقة "صول" الغنائية حول الأطفال فوق ركام المنازل وفوق جراح قلوبهم متحدين الجوع والبرد والقصف وهم يرددون أمام الشاشات أغنية واحدة "بكتب اسمك يا بلادي".

وقد صدح بالغناء أطفال غزة مع طواقم الهلال الأحمر، فوق جراحهم، وقد اشترك الجميع بجرح واحد غائر اسمه "غزة"، ولكنها هي ذاتها التي كانت جرحا كانت شفاء لقلوبهم المسكونة بالألم، يغنون ويضحكون وهم يداوون جراحها وكأنهم يقولون للعالم لا نحتاج لكم، فتلك القوة التي تسكن صدورنا تكفينا، وربما تكفيكم إذا استمرت هزيمتكم وضعفكم أمام قوتنا .

البث المباشر